تورد الحكايات الشفاهية العراقية عدّة تفسيرات لمعنى المثل الشعبي "راح الخيط والعصفور"، منها أنّ رجلاً اشترى لابنه عصفوراً ليلاعبه، لكنه طار منه، وحزن الطفل، فاشترى له أبوه عصفوراً ثانياً، لكن هذه المرّة كان بخيط، وشدّد على الطفل أن يُمسِك بالخيط حتى لا يطير العصفور، لكنّ العصفور الثاني طار هذه المرّة أيضاً، فعاتب الأب ابنه: لماذا لم تُمسك الخيط؟ فردّ الابن: راح الخيط والعصفور، وهو يقصد، بوعيه الطفولي، كأنّ للخيط إرادة مستقلة وقرّر الهرب مع العصفور.
لا أجد شيئاً أكثر مصداقية لينطبق عليه هذا المثل في العراق اليوم مثل ملفّ الفساد، فحتى قبل سنوات قليلة كانت أخبار الفساد تشعل الأجواء إعلامياً وشعبياً، وتزدحم مواقع التواصل الاجتماعي بموجاتٍ من التعليقات والبيانات المحتجّة، وقد يتصاعد الأمر الى تنظيم تظاهرات، كما حصل مع ملفّ تقاعد البرلمانيين العراقيين التي أثارت موجة من التظاهرات الاحتجاجية في عموم العراق في صيف 2018، الأمر الذي أدّى لاحقاً إلى إلغاء هذا القرار.
اليوم هناك خمود عجيب وبرود في ردود الفعل تجاه الفضائح التي تطفو على السطح بين حين وآخر. وليس هذا بسبب أن الناس ما عادت تهتم، أو لأنها صارت تقبل جرائم الفساد من دون اعتراض، وإنما لغياب تلك الشريحة الاجتماعية التي تقف في المنتصف، ما بين الفعاليات السياسية والرسمية من جهة والمجتمع المحلي من جهة أخرى.
وللمطابقة مع ترسيمة المثل الشعبي، تمثل هذه الشريحة الخيط ما بين يد الطفل والعصفور، فهي وسيط يتأثّر بحركة الطرفين؛ الطفل والعصفور، يحجز بينهما، لكنّه واسطة الاتصال بين الطرفين في الوقت نفسه. ولغياب هذه الشريحة أسباب عديدة، منها أنها أنهكت ووصلت إلى الذروة في بذل المجهود مع احتجاجات تشرين (أكتوبر 2019)، وتكبّدت خسائر كثيرة في الأرواح، وتشرّد ناشطون ومثقفون كثيرون، ولم يتحرّك الواقع على الأرض قيد أنملة، بل على العكس عُدنا إلى أجواء أكثر تشدّداً وانغلاقاً. وفي جانب آخر، استسلم بعض الناشطين والمثقفين، وصاروا يحاولون إقامة هدنة مع القوى الحاكمة، بل والعمل في تنظيماتٍ مقرّبة منها.
أما السبب الأبلغ والأكثر تأثيراً فهو ما كشفه الحراك الاحتجاجي (ليس من عورات السلطة، فهي كثيرة)، ولكن من عورات المجتمع المدني نفسه. حيث المثالية المُفرطة وطفولة التفكير السياسي، والتشتّت والنرجسية وعدم القدرة على إدامة العمل الجماعي، وقصور الرؤية تجاه المستقبل والخطوات العملية المطلوبة لبلوغ الأهداف، وسيطرة الشعارات على الحسابات الواقعية.
لقد وجّه النظام السياسي ضرباتٍ ماحقة للمجتمع المدني العراقي، وفتّته بقسوة تذكّر بقسوة النظم الديكتاتورية المستبدة، ولكن المجتمع المدني نفسه وجّه بعضه ضربات لبعضه الآخر. ومثلما توسّعت الهوة بين النظام السياسي والمجتمع المدني وممثليه من إعلاميين ومثقفين وناشطين سياسيين، فإن تجارب السنوات الأخيرة وسّعت الهوّة بين هؤلاء الأفراد أنفسهم.
الشعور المسيطر لدى أغلب الناشطين والإعلاميين هو الخذلان، وأنهم متروكون عراةً أمام أنياب السلطة، وهم إذ يوجّهون اللوم في ذلك إلى المنظمّات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، لعدم اتخاذها قراراتٍ حازمة، فإنهم يتلاومون ويوجّهون سهام النقد والتقريع في ما بينهم أيضاً.
سيبقى المجتمع ضائعاً وتائهاً مثل عصفور المثل الشعبي، ينظُر بلا مبالاة باتجاه حفلة التعرّي المستمرّة التي يقوم بها النظام السياسي على الملأ بفضائحه وفساده المستشري، إن لم يستعد "الخيط" دوره، وهو دورٌ لا يتعلّق، في هذه المرحلة، بالوقوف الانتحاري بوجه آلة السلطة القمعية، وإنما بإعادة بناء التفاؤل، وتجديد القراءة للمعطيات الواقعية، ووضع حساباتٍ دقيقةٍ لاستعادة دور النخبة كوسيط ضروري بين السلطة والمجتمع، فلا شيء سيتغيّر في الواقع العراقي إن لم تستعد النخبة هذا الدور.