أعادت التطورات الأخيرة التي شهدتها مدينة كركوك للأذهان من جديد التذكير بحجم التدخلات في الشأن العراقي من بعض دول الجوار أو بعض القوى المؤثرة في المجتمع الدولي، لتؤكد من جديد هشاشة الوضع السياسي واستمرار انعدام الحلول لأزمات مضت عليها عقود.
وتصاعد التوتر في كركوك مطلع الأسبوع الجاري بعد مواجهات عنيفة بين عرب وتركمان من جهة والأكراد من جهة أخرى، على إثر قرار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بتسليم مقر العمليات المشتركة في كركوك للحزب الديمقراطي الكردستاني، وأسفرت المواجهات عن مقتل أربعة من المتظاهرين احتجاجاً على إغلاق طريق رئيس يربط المدينة بأربيل من فصائل مسلحة.
ودانت حكومة إقليم كردستان والحزب الديمقراطي الكردستاني الأحداث في كركوك، وطالب الحزب عبر عدد من ممثليه بسحب الجيش العراقي و"الحشد الشعبي" من المدينة باعتبارها جزءاً من إقليم كردستان.
أردوغان على الخط
لم تكن التطورات التي تشهدها كركوك بعيدة من دول الجوار العراقي وبعض القوى المؤثرة في المجتمع الدولي، إذ أبدت رأيها في هذه الأزمة بتصريحات متعددة وصل بعضها إلى الدعوة إلى تطبيق مواد الدستور العراقي الخاصة بالمناطق المتنازع عليها.
وكان الموقف التركي هو الأكثر وضوحاً، وحمل رسالة للقوى العراقية عن توجهات أنقرة بهذا الخصوص، إذ دعا الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الابتعاد عن أية ممارسات من شأنها تغيير التركيبة الديموغرافية لمدينة كركوك العراقية من أجل الحفاظ على السلام في المنطقة.
وقال أردوغان في حديث للصحافيين على متن الطائرة أثناء عودته من زيارة رسمية لمدينة سوتشي الروسية الإثنين الماضي، إن "كركوك هي موطن التركمان ومنطقة تعيش فيها الثقافات المختلفة بسلام منذ مئات السنين ولن نسمح بزعزعة أمنها ووحدة أراضيها".
وأضاف أن "أي فعل يلحق الضرر بتركيبة مدينة كركوك يعني إلحاق خلل بوحدة العراق"، داعياً وزير خارجيته هاكان فيدان ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالن إلى ضرورة متابعة ملف كركوك عن كثب.
الخزعلي يرد
تصريحات أردوغان لم يعلق عليها من الحكومة العراقية أو أية جهة رسمية باستثناء الأمين العام لحركة "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي، الذي يعتبر حالياً شريكاً أساسياً في حكومة السوداني وأحد المدافعين عنها.
الخزعلي رفض "تدخل أية دولة في قضية كركوك"، في إشارة إلى تركيا التي تحدثت عن ضرورة حماية التركمان بعد أحداث كركوك الأخيرة.
وقال الخزعلي في تغريدة على موقع "إكس" إن "كركوك عراقية، والتركمان عراقيون، ولا يحق لأية دولة التدخل في شؤوننا الداخلية".
وكان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أعرب عن قلق بلاده من التوتر في محافظة كركوك، قائلاً إنه "ينبغي عدم المساومة على حقوق التركمان فيها وسندافع عنهم دوماً".
وتعتبر كركوك أهم المدن التاريخية لتركمان العراق، وهي غنية بالنفط ويقطنها حالياً، إلى جانب التركمان، عرب وأكراد ومسيحيون، وتشهد منذ إبعاد قوات البيشمركة عنها في أكتوبر (تشرين الأول) 2017 انتشاراً واسعاً لقوات الجيش العراقي يتمثل بفرقتين هما 11 و8 وألوية "الحشد الشعبي" وقوات مكافحة الإرهاب.
واشطن والمادة 140
بدورها دعت الولايات المتحدة الأميركية إلى الحوار وتفعيل المادة 140 من الدستور العراقي، وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيدانت باتيل إن واشنطن على اتصال دائم مع شركائها في بغداد وأربيل في شأن آخر المشكلات حول الموازنة والرواتب وعدم استئناف تصدير نفط كردستان، داعياً جميع الأطراف إلى ضبط النفس واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتهدئة التوترات في كركوك.
مدير مركز العراق للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل يؤكد أن تركيا تعتبر كركوك جزءاً من أراضيها، مشيراً إلى أن حل مشكلة المدينة سينهي جميع التدخلات الخارجية.
وقال فيصل إن "التدخل الإقليمي في كركوك يتخذ أشكالاً سياسية واجتماعية ودبلوماسية وضغوطاً على السلطات الاتحادية، ومنها تصريحات الرئيس التركي أردوغان التي يشير فيها إلى أن كركوك عاصمة التركمان ويشدد على أهميتها"، مبيناً أن الأتراك يعدون المدينة جزءاً من ولاية الموصل في الحقبة العثمانية وبالتالي جزءاً من أراضيهم.
وأوضح أن من الضروري أن تتوصل كل من السلطة التشريعية والتنفيذية ومجلس الوزراء إلى تسوية في إطار المادة 140 من الدستور من خلال إجراء إحصاء في كركوك بما يتناسب مع إحصاء 1957 من حيث الخريطة الاجتماعية، لافتاً إلى أن تسوية المسائل العالقة وتعويض المهجرين والمهاجرين ثم الذهاب إلى الاستفتاء تحت إشراف دولي من الأمم المتحدة يمكن أن يقود للانتهاء من ملف المناطق المتنازع عليها في الدستور.
وتابع أن إرادة شعب كركوك إذا ذهبت لاستمرار الارتباط الإداري مع السلطات الاتحادية فبالتأكيد سيحترم إقليم كردستان هذه الإرادة، مشيراً إلى أن كركوك في كل الأحوال ستبقى جزءاً من الأراضي العراقية.
وأشار فيصل إلى إمكان إيجاد وضع خاص لكركوك بما يشبه الإقليم من أجل حل أزمتها، مؤكداً أن حسم المشكلة وفق المادة 140 من الدستور سيمنع أي تدخل تركي أو إيراني أو غيرهما، الذي قد يأتي لأسباب اقتصادية أو عرقية أو اجتماعية.
الخارج وتأزم الموقف
بدوره يرى الباحث في الشأن السياسي علي بيدر أن التدخل الخارجي تسبب في أزمات لكركوك، مشيراً إلى أن انسجام مكوناتها الأربعة من العرب والتركمان والكرد والمسيحيين مستمر على رغم وجود هذه التدخلات الخارجية بواقع المدينة في جميع المراحل.
واعتبر بيدر أن "أي استيراد لحل من الخارج يعني أننا سنستورد أيضاً مجموعة من الأزمات ربما تكون أكثر ضرراً من الإيجابيات".
أما الباحث في الشأن السياسي الكردي عبدالسلام برواري فيرى أن "المتضرر الوحيد من التدويل هم العراقيون"، موضحاً "في الدبلوماسية العالمية الخاسر من التدويل هو الجهة الصغيرة وبالتالي سيخسر العراق والعراقيون وأهل كركوك".
وأشار إلى أن "الأميركان فقدوا القدرة على التأثير في السياسة العراقية منذ قرروا مخطئين أن يسحبوا قواتهم من البلاد ليتركوا النفوذ لإيران".
وانتقد برواري "قيام رئيس دولة أجنبية بالحديث عن مدينة عراقية وكأنها مقاطعة في ديار بكر، في حين لم نجد أي رد فعل من العراقيين"، مشيراً إلى أن "بعضهم يتخوف من المادة 140 من الدستور ويقول إن الكرد يريدون تطبيقها لضم كركوك لإقليم كردستان، وهذه العملية تشمل ثلاث مراحل، الأولى تطبيع الوضع من خلال إرجاع الناس الذين طردوا إلى مناطقهم الأصلية، ثم إجراء إحصاء سكاني، وبعدها الذهاب للاستفتاء، ولا أدري لماذا يخاف بعضهم من هذه الخطوات".