عندما يشرح المحلّلون السياسيون الوضع السوري، يعتبرون أن سورية أصبحت مقسّمة إلى عدة قطاعات، أولها الذي يسيطر عليه النظام، والثاني قطاع الشمال الغربي الذي يمكن أن يقسّم إلى منطقتين، تسيطر على الأولى قوات معارضة مدعومة مباشرة من تركيا، والأخرى تخضع لنفوذ منظمات متشدّدة إسلامية تدير مناطق في إدلب وريف حلب. فيما يعتبر القسم الشرقي من الفرات قطاعاً رابعاً، خرج مبكّراً عن طاعة النظام، وظهر فيه الكرد قوةً مسيطرة، خصوصاً بعد أن لعبوا دوراً مهماً في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بمساعدةٍ مباشرةٍ من الولايات المتحدة. ساهمت أميركا بقواتها ومعدّاتها في القتال، ما أعطى الجانب الكردي سيطرة واضحة على القطاع، إلى جانب مشاركةٍ عربيةٍ فضفاضة، ولكن الدول الأخرى حافظت لها على وجود وتأثير متفاوت، كتركيا وروسيا، وحتى النظام نفسه الذي بقيت له بقع في مراكز مدن القامشلي والحسكة، وتمدّدت قواته لتتاخم الضفة الغربية من الفرات، وتوجِّهَ أسلحتها واهتمامها نحو الضفة الأخرى، وعينها على الموارد الغنية الموجودة في ذلك القطاع، وترفع شعار استعادة السيادة على كامل القطاع، وتساندها روسيا في ذلك، وتدعم مساعيها لتعود إلى هناك بقوة.
حافظت الولايات المتحدة على وجودٍ مؤثّرٍ في المنطقة، بعد إعلان انتصارها على "الدولة الإسلامية" (داعش)، وأرادت أن تفرض استقراراً يمنع عودة عناصر التنظيم الإرهابي المذكور، ووجدت ذلك في زيادة دعم الجانب الكردي، ولكن الموقف الأميركي سرعان ما أصيب بارتباكٍ من خلال إعلانات متناقضة عن الانسحاب والبقاء وسحب بعض المعدّات الثقيلة، والإبقاء على عدد محدد من القوات، الأمر الذي شجّع الأطراف الأخرى على أن تزيد من مساحة وجودها أو تأثيرها. وكان الجانب الإيراني حاضراً بقوة، فهو مثابرٌ في الحفاظ على أمن الممرّ المفضي إلى سورية عبر العراق، وفيما لم تغيّر الإدارة الأميركية موقفها المعلن في محاربة "داعش"، أضافت إليه محاربة النفوذ الإيراني، ولعل ما بقي من قوات أميركية هو لتنفيذ هذا الغرض. قد تكون القوة الرمزية كافية للإشارة إلى الوجود الأميركي وتأمين حماية ما، لكنها غير قادرة على تأمين الاستقرار الذي تبحث عنه، ويبدو دورها مشوّشاً في الصراع الذي نشب قبل أيام في منطقة وجودها.
حاول الجانبان، التركي والروسي، البحث عن نقاط مشتركة فيما بينهما في المنطقة، وجرّبت روسيا جرّ تركيا إلى التقارب مع النظام، وإيران في خلفية المشهد، فهذا الحلف تجده روسيا قوياً وقادراً على مجابهة الولايات المتحدة، لكن جهودها لم تفلح في إيجاد أي تقارب بين النظام وتركيا. وتبدو علاقاتها مضطربة مع الكرد، ولا يبدو أنها تتمتّع بأي نفوذ بين العشائر العربية، ووجودها شرق النهر محفوفٌ بالمخاطر، فيما تعزّز تركيا وجودها ببطء شديد قد يمكّنها من الوصول إلى هدف المنطقة العازلة بعرضٍ كافٍ، وهي بحاجة لتعاطف العشائر فقط من دون أن تكون هناك ضرورة للتفاهم مع النظام ولا مع روسيا، ويمكن للولايات المتحدة أن تغضّ النظر إذا ظلت حالة من الاستقرار سائدة في المنطقة.
يعتبر الصراع الناشئ حالياً حرباً أهلية مصغّرة، تتوسع وتفتح محاور جديدة فتُنتج المزيد من النازحين الذين بدأت طلائعهم تقطع النهر نحو الجهة الغربية، أو تزحف بمجاميع كبيرة تاركة قُراها نحو التجمّعات الكبرى ذات الاستقرار النسبي، مثل منبج. وحالة كهذه تُنشئ بيئة مناسبة قد تمكِّن النظام وحلفاءه من مدّ النفوذ إلى نقاط الضعف التي ستنشأ، وهذا ما لا ترغب فيه الولايات المتحدة، لكن المجال سيكون مفتوحاً أمام تركيا لتُحرز المزيد من السيطرة على قطاعات أوسع من الحدود، في ظل إحجام القوات الأميركية التي لا تبدو لديها رغبة في تورّطٍ يتطلب استقدام مزيدٍ من الجنود، قبل عام من الانتخابات الرئاسية في بلادها، فالفرصة متاحة في هذا الظرف لكل من النظام وإيران وتركيا وروسيا لفرض سيطرةٍ ما، قد تعرّض المنطقة لشكلٍ جديدٍ من التجزئة.