جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى السعودية (17- 18/ 8/ 2023) في ظلّ تزايد التكهنات بفتور العلاقات بين طهران والرياض، واحتمال عودتها إلى سيرتها الأولى من "التنافس المتجدد"، على الرغم من رعاية الصين اتفاق البلدين (10/ 3/ 2023)، وإنجازهما خطواتٍ تخدم "تقاربهما الثنائي"، سواء على صعيد الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، أم إعادة فتح السفارات والقنصليات.
وبغية تحليل العلاقات السعودية الإيرانية ومشكلاتها واستشراف مستقبلها، تستعرض هذه المطالعة السياقات الداخلية والإقليمية والدولية لهذه العلاقات، بهدف استخلاص أهم العوامل المؤثّرة فيها، ورصد تداعيات استمرار تنافس الطرفين، خصوصًا على الخليج العربي واليمن، وعلى إقليم الشرق الأوسط إجمالًا.
"صراع هويّاتي" أم "تنافس جيوبوليتكي"؟
كانت السمة الغالبة على العلاقات السعودية الإيرانية، لا سيما بعد الثورة الإيرانية عام 1979، هي "التنافس الممتدّ"، لاعتباراتٍ تتعلق بعوامل الخلاف العقائدي والمذهبي بين الطرفين، واختلاف نموذجَي الحكم فيهما، ورغبتيهما في قيادة العالم الإسلامي، وطبيعة التحالفات الخارجية للبلدين، خصوصًا شكل علاقاتهما مع الولايات المتحدة، والقوى الدولية عمومًا.
وإضافةً إلى تأثير أفكار/ أطروحات آية الله الخميني التي أعطت للثورة الإيرانية "روحها الوثّابة" إقليميًّا، أجّجت ثلاثة أحداث مفصلية، في العقدين الأخيرين، الصراع الإيراني السعودي؛ أولها الاحتلال الأميركي/ البريطاني للعراق عام 2003، وثانيها الثورات العربية عام 2011، وثالثها حرب "التحالف العربي" على اليمن، منذ أواخر مارس/ آذار 2015.
بعيدًا عن اقتراب سياسات الهوية والصراع المذهبي/ الأيديولوجي، كان الصراع على "الهيمنة الإقليمية" ساحةً أساسية للتنافس بين السعودية وإيران
في هذا السياق، ثمّة من يرى أن السعودية اختارت، منذ الثورة الإيرانية، وبشكل أوضح بعد احتلال العراق، أن تلجأ إلى عملية تصنيع مكثّفة لهوية سُنّية في مواجهة "الخطر الشيعي"، (أو تمدّد المشروع الإقليمي الإيراني)؛ فسياسات الهوية هي فعل أيديولوجي يُعيد تشكيل الهوية بوصفها أداةً للتجييش السياسي، ما يفرض إنتاج (وإعادة إنتاج) عدوٍّ خارجي، هو إيران، بغية صناعة عصبية تركز على حماية الدولة والمجتمع السعودييْن من "الاختراق الشيعي"؛ إذ يصعب استيعاب سياسات الهوية السعودية المعاصرة، من دون فهم أثر تصاعد "الحرب الباردة الإقليمية" وبروز الصراع ضد إيران، بوصفهما أولويةً للنظام السعودي يحشد في سبيلها ما يستطيع لمنازعة الآخر الإيراني".
وبعيدًا عن اقتراب سياسات الهوية والصراع المذهبي/ الأيديولوجي، فقد كان الصراع على "الهيمنة الإقليمية" ساحةً أساسية للتنافس بين السعودية وإيران؛ فقد رأت الأولى أنها مُحاطة بأعداء حقيقيين (أو محتملين)، أغلبهم أكبر وأقوى منها، ولذلك بحثت عن ضمانات أمنية خارجية (أميركية/ غربية) لموازنة التهديدات في الخليج العربي. وعلى العكس، عارضت طهران بإصرار وجود القوى الخارجية في البيئة الأمنية الإقليمية، استنادًا إلى رؤية إيران نفسها وقدرتها على توفير الأمن وبسط هيمنتها اعتمادًا على إمكاناتها الذاتية ومميزاتها الجغرافية وتاريخها، التي تكشف جميعًا أنها "دولة طبيعية"، لكنها مُحاطة بدول "خَلَقَها" الغرب في القرن العشرين، أو أسهم في إنشائها، على أقلّ تقدير، وفقًا للمنظور الإيراني.
أثر التحوّلات الإقليمية بعد الاحتلال الأميركي العراق
إذا كان المستوى الثنائي في علاقات السعودية بإيران يشهد "صراعًا أيديولوجيًّا"، فقد لعب عامل التحوّلات في النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، الذي انتقل بعد احتلال العراق ربيع 2003، من نظام توازن قوى، إلى نظام دول فاشلة، دورًا في تأجيج التنافس الجيوبوليتكي بين طهران والرياض؛ إذ تتنافس كل من إسرائيل وتركيا وإيران والسعودية في إطار "صراع بين الدول"، وفقًا للتنظير الواقعي لعملية توازن القوى، بيد أن ثمّة مستوىً آخر من "الصراع داخل الدول" عبر الوكلاء، في مناطق الحروب الأهلية في سورية واليمن وليبيا، وفي الدول الضعيفة مثل العراق ولبنان.
تملك إيران قدرات خوض "حرب هجينة"، ولذا تخشى الرياض من هذا المستوى، الذي يمنح إيران نفوذًا إقليميًّا أكبر
وعلى الرغم من عدم تمتّع إيران بميزة ضخامة الإنفاق العسكري التقليدي مقارنةً بالسعودية، فإنها تملك قدرات خوض "حرب هجينة" (تناسب الصراع داخل الدول)، ولذا تخشى الرياض من هذا المستوى، الذي يمنح إيران نفوذًا إقليميًّا أكبر. وقد أفضت التحولات الإقليمية بعد احتلال العراق عام 2003 إلى ترجيح المكانة الإقليمية لإيران على حساب السعودية، لثلاثة أسباب:
1- تعزيز النفوذ الإيراني في العراق والخليج (فضلًا عن سورية ولبنان).
2- تحييد العراق بوصفه "القوة العربية المركزية" التي كانت تؤثر في ميزاني القوة في المنطقة الممتدة من الخليج العربي إلى وادي النيل، وتكبح جماح الرغبتين الإيرانية والإسرائيلية في التمدّد وتوسيع النفوذ الإقليمي.
3- تدهور مكانة العراق (من دولة إقليمية مركزية إلى "دولة فاشلة")، وتلاشي مفهوم "تهديد الجبهة الشرقية" بالنسبة لإسرائيل [8]، فضلًا عن تكريس المقاربة الإسرائيلية في تسوية القضية الفلسطينية، التي تعني اختزال التسوية، في تحقيق "الأمن الإسرائيلي".
وعلى الرغم من وجود حدودٍ لقدرة إيران على حصد نتائج استثماراتها السياسية الطويلة في إفشال السياسات الأميركية في الخليج العربي وإقليم الشرق الأوسط إجمالًا، وميل السعودية إلى دعم خصوم طهران في الإقليم، فقد تكرّس معلمان للإقليم؛ أحدهما تراجع أهمية الصراع العربي الإسرائيلي محدّدا للعلاقات الإقليمية، كما يلاحظ من تسارع التطبيع العربي مع إسرائيل (على الرغم من جمود، لكيلا نقول، انهيار عملية التسوية وحل الدولتين). والآخر تكريس الصراع العربي الإيراني بديلا عن الصراع العربي الإسرائيلي؛ أي أن تصبح إيران "عدوّ العرب" بدلًا من إسرائيل التي تحوّلت إلى "صديق" وربما "حليف استراتيجي"، بالتوازي مع تأجيج الصراع الطائفي السنّي - الشيعي في المنطقة وعزل إيران، تمهيدًا لإضعاف المنطقة وتكريس صراعاتها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية".
لا تزال الرياض تميل إلى التحالف والشراكة الأمنية/ الاستراتيجية مع واشنطن، مع توسيع علاقاتها مع الصين وروسيا والهند
السياق الدولي بعد الأزمة الأوكرانية
إضافة إلى الأبعاد الداخلية والإقليمية، هناك تأثير ملحوظ للأبعاد الدولية في العلاقات السعودية الإيرانية، لا سيما في ظل المرحلة الانتقالية التي يمرُّ بها النظامان الدولي والإقليمي، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا 2022/ 2023، وبروز أدوار الصين وروسيا والهند في إقليم الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من وجود فرصة حقيقية أمام السعودية لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية وتوسيع هامش المناورة والحركة في سياساتها الخارجية، لا تزال الرياض تميل إلى التحالف والشراكة الأمنية/ الاستراتيجية مع واشنطن، مع توسيع علاقاتها مع الصين وروسيا والهند، من دون أن تستبدل حليفًا دوليًّا بآخر؛ إذ تبرز ثلاثة متغيرات في هذا الصدد. أولها استضافة مدينة جدّة السعودية محادثات حول الحرب في أوكرانيا 5 و6 أغسطس/ آب الماضي، وهي "مساحة" جديدة للدبلوماسية السعودية، ناجمة عن توظيف متغيّرات الأزمة الأوكرانية (من الحالات النادرة التي تلعب فيها الرياض أدوار وساطة خارج إقليم الشرق الأوسط وأفريقيا وأفغانستان). وثانيها عودة إدارة بايدن إلى التقارب مع السعودية، بسبب اقتراب الانتخابات الأميركية وحاجة الإدارة إلى "إنجاز دبلوماسي"، لا سيما في تسريع وتيرة التطبيع السعودي الإسرائيلي (لإنقاذ إسرائيل من مأزقها الداخلي المتفاقم بسبب مشروع "التعديلات القضائية")، فضلًا عن رغبة واشنطن في تقليص مساحات التنسيق السعودي مع بكين وموسكو، في مقابل سعي واشنطن إلى إدخال الهند حليفًا استراتيجيًّا مع إسرائيل والإمارات ضمن " مجموعة I2 - U2"، لموازنة تصاعد النفوذ الصيني في الخليج العربي والشرق الأوسط إجمالًا.
وثالثها غياب متطلبات "الشراكة الاستراتيجية"، لا سيما في جانبها القيمي والرؤى المشتركة، بين السعودية وكل من روسيا والصين؛ إذ يهيمن منطق "الشراكة الاقتصادية" أساسًا، حتى بافتراض لجوء الرياض إلى دراسة عرض صيني لبناء محطّة للطاقة النووية في السعودية، بغية الضغط على إدارة بايدن لتقديم تنازلات بشأن شروطها لمساعدة السعودية في الحصول على الطاقة النووية، كما تخشى الرياض التعاون مع روسيا بسبب العقوبات الغربية عليها، فضلًا عن الشكوك السعودية في قدرة فرنسا على الوفاء بالتزاماتها، (وفقًا لما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال).
تبذل كلٌّ من تركيا وإيران وإسرائيل جهودها للتأثير على خيارات الرياض، التي تعاني تذبذب علاقاتها العربية والإقليمية
واستطرادًا، يبدو أن بن سلمان عاد إلى "سيناريو الصفقة" مع واشنطن، على الرغم من تزايد ملامح "عدم فاعلية" سياسات واشنطن في إقليم الشرق الأوسط، وتصاعد أدوار الصين وروسيا والهند وتركيا وإيران في الإقليم.
شروط تحسين العلاقات
يسلتزم تحسين العلاقات تذليل عقبات كثيرة، من أهمها: تجاوز أزمة ضعف الثقة بين البلدين، وعدم الإصرار علی "المواجهة الصفرية"، والتمترس خلف شروط تمنع تقديم تنازلات متبادلة، وتحييد تأثير الفاعل الإسرائيلي على أي تقارب سعودي إيراني، ما يطرح تحدّيا مهمًّا على السياسة السعودية حول إمكانية الجمع بين التقارب مع إيران وإسرائيل في الوقت نفسه، لا سيما أن خبرة مصر في هذا الصدد، بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، تفيد بأن إيران وإسرائيل على طرفي نقيض؛ إذ تقودان أو تنخرطان في صراع محاور إقليمي، ذي عمق دولي واضح، وربما يصعب على أية دولة عربية التطبيع مع كلتيهما معًا، إلا إذا كانت تحظى بمؤسّسات راسخة، وتحوز أوراق قوة يجرى توظيفها ضمن استراتيجية متكاملة، على نحو ما قد تكشفه حالة تركيا (تمثّل استثناءً شرق أوسطيًّا في هذا الصدد).
يبقى القول إنه على الرغم من إيجابية "التقارب الثنائي" بين السعودية وإيران، لم يحدُث "تغيير جوهري" في مرتكزات سياستيهما الإقليميتيْن، ولا في امتداداتهما الدولية، بدليل حالة الجمود في قضايا اليمن ولبنان والعراق وسورية، ما قد يعني أمرين؛ أحدهما أن إيران تترك لحلفائها من المليشيات حرّية التصرّف في قضاياهم الداخلية. والآخر أن الصراع في المنطقة يتحوّل على من يجتذب السعودية إلى اصطفافاته الإقليمية والدولية؛ إذ تبذل كلٌّ من تركيا وإيران وإسرائيل جهودها للتأثير على خيارات الرياض، التي تعاني تذبذب علاقاتها العربية والإقليمية، فضلًا عن محدودية خياراتها الدولية مقارنةً بتركيا وإيران، في غياب القدرة السعودية على بناء "تفاهم استراتيجي عربي"، بعد دخول كل من العراق وسورية ومصر في أزماتٍ داخليةٍ كفيلةٍ بانكفائها على نفسها، ربما لعقد مقبل أو أكثر؛ فالقدرات المالية السعودية لا تستطيع وحدها تعويض غياب تأثير مصر والعراق وسورية، ما يعني ترجيح استمرار "الفراغ الاستراتيجي العربي" لمصلحة بروز أدوار قوى دولية أو إقليمية في المنطقة، إلا في حال حدوث متغيّراتٍ استراتيجية تستعيد للبعد الشعبي العربي تأثيره، ربما عبر موجةٍ أخرى من الثورات العربية، ما يسهم في استعادة الوزن/ الثقل العربي في معادلات المنطقة.