أصبح التهديد بمباشرة إجراءات عزل الرئيس الأميركي من التقاليد السياسية التي يمارسها الحزبان، الديمقراطي والجمهوري، في الولايات المتحدة. فخلال أي فترة من فترات حكم الرئيس، يبدأ الحزب المنافس بالبحث عن ثغرات قانونية أو جنائية تجعل المباشرة في إجراءات عزله ممكنة، فنرى وسائل الإعلام تمتلئ بأخبار تلك الإجراءات... فشلت كل تلك المحاولات في عزل أي رئيس، ومع ذلك ما زال هذا الأسلوب يمارس بانتظام، وتكاد تكون وسائل الإعلام والمجتمع كله في حالة ترقب للحظة التي تُعلَن فيها حالة من هذا النوع، ويسجل تاريخ السياسة الأميركي أن حكام البيت الأبيض جميعاً منذ عهد الرئيس رونالد ريغان يواجهون تهديداً بالعزل باستثناء واحد هو الرئيس باراك أوباما الذي يخرج من قائمة من هُددوا أو واجهوا ذلك.
تبدأ القصة من الدستور الأميركي الذي تتحدّث المادة الثانية منه عن إجراءات عزل الرئيس في حالة اتهامه بالرشوة أو أيٍّ من الجرائم الكبرى، والسلطة الوحيدة المخوّلة بإطلاق تحقيقاتٍ تؤدّي إلى العزل هي مجلس النواب الذي يمكن أن ينقل إجراء العزل إلى مجلس الشيوخ في حال تصويته بأغلبية النصف زائداً واحداً، وفي مجلس الشيوخ يجب أن يصوّت ثلثا الأعضاء لصالح العزل حتى يصبح نافذاً، وإذا صوتوا بغير ذلك تسقط كل التهم، ويمارس الرئيس مهامّه بشكل طبيعي. وكأن مجلس النواب قد تنبّه إلى هذه الحالة بشكل أكبر في الولاية الأولى للرئيس الجمهوري ريغان، فقد قدّم نائبٌ اقتراحاً ببدء إجراءات عزل الرئيس، بعد أن غزت الولايات المتحدة غرينادا (1983)، ثم قدّم النائب نفسه اقتراحاً آخر في ولاية ريغان الثانية بعد فضيحة إيران غيت. وفي الحالتين كان الديمقراطيون أكثرية في الكونغرس، ومع ذلك لم تمرّ إجراءات العزل.
واجه جورج بوش الأب الحالة نفسها بعد ضرب العراق (1991)، ومع مجيء بيل كلينتون إلى السلطة تحوّل التهديد بالعزل إلى التقدم خطوة نحو تصويت الكونغرس بالفعل على عزله، بعد فضيحة مونيكا لوينسكي، ولكن الكونغرس صوّت بأهلية الرئيس وبقائه في المنصب. واستمرّ مسلسل التهديد مع الرئيس التالي جورج بوش الابن على خلفية غزو العراق، وراوح القرار في مجلس النواب، ولم يصل إلى المرحلة التالية. وخلت ولايتا أوباما من تهديد مباشر بالعزل، وكأن الكونغرس ارتاح مؤقتاً قبل أن يواجه رئيساً ذا أطوار غريبة هو دونالد ترامب الذي تعرّض لإجراءات عزلٍ مرّتين في دورة واحدة، وهذه ظاهرة فريدة، ولكنه نجا فيهما حين صوّت الكونغرس لصالحه.
عرف التاريخ السياسي الأميركي في الماضي حالات من إجراءات العزل، ولكنها كانت متقطّعة حتى انتعشت في الفترة الأخيرة. وحاول الصقور، من كلا الحزبين، اللعب عليها، لكسب شخصي أو حزبي، والنيْل من الطرف الآخر في معارك حزبية ضارية. وها هو اللغط يتزايد حول الرئيس جو بايدن، ويتعرّض للتهديد بالعزل، وقد صرّح أحد النواب الجمهوريين بأن هناك أدلة كافية للبدء بإجراءات العزل، حيث يقول إن بايدن كذب على الشعب الأميركي بشأن نشاطات ابنه في الخارج التي تثير كثيراً من الريبة.
تأخذ إجراءات العزل وقتاً كبيراً، وقد تتجاوز العام فيما لو سارت بحسب البروتوكول الدستوري، فهي تتضمّن تحقيقاتٍ مطولة، وإذا أنتجت التحقيقات ما يجعلها تمضي قدماً، فالكونغرس سيقرّر في الأمر، ومن المستبعد أن يصوّت لصالح العزل، مع احتمال أن يصوّت بعض الجمهوريين لصالح بايدن. لذلك يَصعب أن يمرّ القرار، وهو أمر يعرفه الجمهوريون الذين يدعمون الإجراء، لكنهم يرغبون في تلطيخ سمعة بايدن مع اقتراب العام الانتخابي، وهو الأمر نفسه الذي قام به الديمقراطيون مع ترامب، حيث أرغموه على مواجهة الإجراء مرّتين، ما كان كافياً ليخسر أمام مرشّح ضعيف كبايدن الذي يتجرّع اليوم من الكأس نفسه.