ننشُر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.
"ضع في أحاسيسي سلاماً أبدياً
ولن أطلب سوى هذه السماء الزرقاء".
(خوان مارجال)
روما القديمة، أرضيةُ الحمّامات المتآكلة، أشجارُ الزيتون والبندق، جدرانُ الغرف المُوحشة، قوسُ النصر العالِق على بضعة أحجار من الجانبين، طُرقاتٌ وهميّة في متاهةِ الرُّكام المُتناثر، أعمدةٌ خضّرتها الطحالبُ، وزوايا تتردَّد فيها الريحُ، الريحُ نفسها ربّما، أو الأنفاس نفسها... مَن يدري؟
في الشعرِ وحده تعود الأرواحُ إلى حقولها المنسيّة، يُولد حجرُ الروح مائياً وشفّافاً، تُولد مرساةُ الروح. هكذا بدأ كلُّ شيء في هذه الغابة الحجرية، من رافعةِ نهدين حمراءَ بلونِ العقيق وظهرٍ عارٍ، وشَعرٍ ذهبي وفخذين موجتين، من ظلالٍ خضراء مُتناثرة وشمسٍ غاربة، ونسماتٍ تتردّد بين الفينة والفينة، من أميرةٍ عارية على فراش مُرتجل وضعناه على عجلٍ في الصالة، وأوقدنا إلى جانبهِ شمعةً ضخمة لا تُذكّر بشموع القدّيسين، بل بمشاعلَ خافقةٍ على امتداد شارع اللذائذ في بومبي، أو في زوايا حانةٍ إسكندرانية على ساحل البحر، أو في طريقٍ ملكي في سافاثا كلّما أحاط بها الليل.
أجمعَ العرّافون على أنّ لعنة المرأةِ المفقودة التي اختطفها الغزاةُ قبل آلاف السنين، وضاعتْ بين القبائل البربرية، هي التي ستقيّد سافاثا، وتُحوّل سكّانها إلى أمواجٍ مُتلاطمة، وستنمحي أسماؤها ومعابدها، وتسود صمتها المائي أحلامٌ خرساء. وستظهرُ بين الحين والآخر لتائهٍ في الصحراء، فيحدّث عنها مُستمعين مذهولين تجمّعوا في حانةٍ من حانات قرطاجنة المحترقة، أو بغداد المصابة بالطاعون، أو طليطلة المتحجّرة، فيشدُّون إليها الرحال، ولن يجدوا سوى الصحراء.
زجاجةُ النبيذِ المائلةُ في سلّةِ القشِّ مُلقاةٌ على رملِ الشاطئ بيننا، وليندا تغنّي هامسة ووجها إلى البحر قصيدة هياواثا، عن آخر الهنود، وربّما آخر البراري والغابات، وربّما آخر الأيام الستّة، قبل رحيلها بساعات.
أهتدي إليها بالأمواجِ وذهبِ الشمس الغاربة والإيقاع الهامس. أهتدي إليها بالخواتمِ الخزفية الزرقاء والحمراء التي أثقلتُ بها أصابعها، وعقودِ الخرز الملوّن التي أثقلتُ بها جيدها أمام الغجرية السمراء المتربّعة على الأرض مع عقودها في ساحة بياتسا نافونا.
"هكذا كانوا يؤلّهون المعبودات، بالأحجارِالملوّنة ولهبِ المشاعل والعُري في أعماق المعابد المقدّسة".
تبتهج وتضحك وتضحك:
"ستظلّ طفلاً يا صغيري... تعال نقرأ طالعنا".
"قرأته قبل آلاف السنوات، ألا تعرفين أنّني كنتُ كاهناً في سافاثا ورأيت عربات الغزاة تحملُكِ بعيداً حين كانت أحجارُ المعبد تنتحب واللهبُ يحيط بكل شيء؟".
"أنا..!".
"لا تقولي شيئاً، كنتُ كاهنك الوحيد، وها أنا أعيدكِ إلى متاهتي، ها أنتِ تنبعثين بين الخرائب، حيثُ تنبعث الأميراتُ والأعشابُ وتتنهّدُ الريح".
"خيالي... خيالي دائماً... دع هذه الغجرية تقرأ طالعنا...".
"إذن اسمعي... على شواطئ مهجورة تتساقط أزهارٌ كثيرة، عاشق مُتوحّد في سفينة أشباح، عرّافاتٌ يمحين اسمه عن صخرة، فتضيع روحُه ولا تهتدي، أنتِ، أنتِ أميرة منفيّة في معبد دودونا، أو طرقات بومبي، أو هركلينوم المطمورة على ساحل البحر...".
تحدّق الغجريةُ مُتشكّكة صاغية، ثم تهزُّ رأسها كأنّما لتُسقط عنه خاطرة عابرة:
"السيدة أوّلاً...".
تبسط ليندا كفّها وتميل برأسها الذهبي جانباً، تبتسم والغجرية تتفحّص خطوط راحتها.
أهتدي إليها بهذه الزجاجةِ الخاوية المائلة على الرَّمل، ونحن نبتعد عن البحر ذاهبِين إلى ضجيج محطّة القطار، أهتدي إليها بوجوهِ المُسافرين وراء النوافذ، أهتدي إليها ببلادٍ غامضة تزداد غموضاً كلّما أوغلَ بي القطار العائد إلى روما في الأنفاق الجبَلية، وأَوغلَ بها القطار الذاهب شمالاً بين البحيرات وغابات الصنوبر. تبتهجُ وهي تحرّك أصابعها المُثقلة بالخواتم الخزفية، يتطاير حولها الحمام في ساحة سان ماركو، تتطاير نسمات من شعرها وهي تُواصل أغنيتها الهامسة: "وأنا سأهديكَ شيئاً تتذكّرني به إلى الأبد".
طليطلة تنحدر ليلاً إلى الوادي العميق، تتحوّل البيوتُ والحاناتُ والأزقّةُ والساحاتُ إلى عناقيدَ من النجوم غارقةٍ في سواد مُبهم، وما إن يصل المسافرُ إلى القمّة حتى يتلامح جسرُها الحجريّ القديم. بياضٌ باهت فوق هاوية غارقة في العمق النائي. حجارةٌ بيضاء غضَّنها الغبارُ وسقوط أمطار في أزمنة لا يذكرها أحد. الجسرُ نفسه تحوّل إلى جسورٍ مصغّرة مصفوفة في محلّات العاديات، لها شكلُ أوعيةٍ لرماد السجائر تدافعت على قوائمها من الجهات الأربع شخوصٌ لملوكٍ ومحاربين وملكاتٍ وأطفال وفلاحين؛ تماثُلٌ أصفر يميل إلى التراب.
الغريكو غادر بيته لمرشدةٍ سياحية قصيرة، لنظارتها الطبّية وفستانها البيتي الذي يذكّر بفستان طاهيةٍ عجول، وحشدٍ من القبّعات والنظارات والكاميرات يتنقل وراءها في غُرفٍ ضيّقة بين لوحات قليلة: سماءٌ مكفهرّة شاسعة وراء قدّيس نحيل مُضحِك برقبته الطويلة ويديه الضارعتين ووجهه الغارق بالابتهال والدموع، خيولٌ زرقاء بأقدامٍ شبحية في حقول حمراء تحت سماء سوداء يشقّها برقٌ فوق جبال نائية.
لا تلتمع في الباحة الصغيرة ونافورتها الحجرية الشاحبة إلّا خضرةُ البوكنفيليا المتدلّية من الشقوق بأزهارها الحمراء. الغريكو... الغريكو... تختلط الكلماتُ وهي تنطقها بجدّية ولذّة برذاذ يتطاير من شفتيها المُكتنزتين. كلماتٌ عن حضارة عجنتها أجناس مختلفة، يهود، مسلمون، رومان، قوط. ألفتُ نظرها إلى أن خطوط الغريكو المُلتوية سببها حَوَلٌ في عينيه، فتتّسع عيناها دهشة، تتوقّف، ومن دون لحظة تأمّل تنفي التُّهمة بعصبية، وتعود إلى عجينة حضارتها، تستأنف عجنها وتكويرها وتقليبها، وتنتقلُ بالحشد إلى زاوية أُخرى.
للّيلِ صوتُ وشوشةٍ وتمتمات متقطّعة تتباعد كما تتباعد الأشياءُ وتنفصل، البيوتُ والساحات وطيورُ السنونو السوداء، وعناقيدُ النجوم، وحمامُ ساحة سان ماركو، وهذا الفراغ الذي يرفُّ حيث كنّا أمام الغجرية، وأمام حدائق الحمراء، وهذه النسماتُ الرَّخِيَّة المُحمّلة بالبرودة في صيف الحجارة الرومانية، وزوايا البار القليل الروّاد؛ دخانٌ، رائحةُ نبيذ، عرقٌ، وامرأة واسعة العينين يهتزّ نهداها كلّما قدّمت كأساً أو ضحكتْ وهي تُصغي إلى عجوزٍ مُنحنٍ على كأسه يُسامر أشباحاً.
لليلِ وشوشةٌ وظلالٌ تتتابع وراء نافذة القطار المُوغل عميقاً بين منحدرات وسهولٍ تُغادرها أشعةُ الشمس شيئاً فشيئاً، تاركةً لنا الظِّلالَ وحدها، وهذه التلال التي تجمع أعضاءها من الأشجار والجداول والصخور، وتهجع في الهزيع الأخير من الليل.
تتحدّث الغجريةُ عن طرقاتٍ مُغلقة مفقودة، عن شموعٍ شبيهة بالمشاعل تَحُفُّ بإلهة ملفوفة بلذّتها على سريرٍ من السرو والريحان، عن سُلَّم يصعدُه كاهنٌ مجهول ترتجف أعضاؤه، عن عزيفِ قياثر لامرئية وسلامٍ أبديٍّ يهبط على كونٍ يتخلّق فيه النورُ وتنسرب الظلال.
أتطلّع إلى ليندا المُنتشية وهي تُغمض عينيها وتبتسم باستسلام صباحٍ لا تُقاطعه رغبة، أو تتساقط فيه أصواتُ النهار، أو ضجيج القطارات.
"سأهديك شيئاً تتذكّرني به إلى الأبد".
صباح الأحد، على مقعد الصالة الطويل، جمعتْ حول ثدييها وفخذيها الذهبيّين أطراف ثوبها الأرجواني، وأحنت رأسها في صمتٍ مفاجئ.
"لا تعتذر... كلماتكَ دقيقة... وتعني أنكَ لا ترغب...".
"بلى... ولكن الخطأ في اللهجة ربما".
"أتعرف لماذا رفضتُ دعوة الذهاب إلى البحر؟ ليس لأن رماله سوداء، بل لأنني أحببتُ أن يكون لنا صباح الأحد كلّه لا يُشاركنا فيه لا البحر ولا السماء".
تفتحُ حقيبة ملابسها، وتلتقط شيئاً تدسّه في حقيبتي، وترفع إصبعها محذِّرة.
"لا تفتحها قبل أن أُسافر".
رائحة الأنثى ربّما، غيابها، هو ما تتشمّمُه الغجريةُ في هواء الساحة وعلى راحتي المبسوطة بين يديها. تتنهّد، فأقول ساخراً: "كلّنا نجيد الحديث عن الماضي، نخلقه ونعجنه على إيقاع الحاضر".
تزمُّ الغجرية شفتيها، وتحدّق وتحدّق، بينما تطوّقني ليندا وتسند خدّها إلى خدّي وعيناها معلّقتان بشفتي الغجرية. لا تقول شيئاً، عيناها السوداوان الوحشيّتان دخان أسود، تهزُّ رأسها مثل وعل اشتبكت قرونه الشجرية بأغصان كثيفة وجافّة في غابة لا منفذ منها.
"أنتَ".
وتضحك الغجرية.
أفتحُ الحقيبة وأبحث بين ملابسي عن ذلك الشيء الخفيِّ الذي دسّته محذّرةً، عن ذلك الأبدي الذي ستتوهّج الذاكرة وتظلّ تتوهّج كلّما قلّبته بين يدي: رافعة نهدين حمراء، رائحة الأنثى، ظهيرة روما، وقوس النصر المتآكل، ودعوتي المَرحة إلى خلق الكون. دعابةٌ ربما، أو شيء أعمق، لغز، ربما إذا توصّلت إلى نهايته سأجدُ نفسي أمام سافاثا مرّة أُخرى حيث يصطاد الصيادُ بشبكته أسماكاً ملوّنة، تدهشه المعجزة فيأتيني بها مذهولاً إلى باحةِ المعبد بين أشجار السدر والنخيل. ويعود الطبّاخ مذهولاً.
"احترقتْ... احترقتْ كلّها".
ويجيء الصيّادُ مرّة أُخرى بأسماكه الملوّنة، وتحترق كلّها... تحترق ما إن يضعها الطبّاخ على النار.
"خُذنا أيّها الصياد إلى هذا البحر العجيب المُتلاطم الأمواج... خُذنا أيّها الصيّاد إلى حيث تصطاد"، ويُذهل الصيّاد أمام البرّية الشاسعة التي تحوّل إليها البحر، هذا المدى المُترامي الذي ابتلع فجأة كلّ شيء.