مع اقتراب العالم العربي من الغرق في مرحلة تطبيع شامل مع إسرائيل، ازداد خفوت الأصوات الرسمية العربية الرسمية حيال التزام القضية الفلسطينية، فحتى اللفظي من هذا الالتزام تراجع، ومعه تسقط أكاذيب أنظمة تدّعي التمسك بالقضية زيفاً أو التذرّع بفلسطين لتبرير شرعيتها وقمع شعوبها. ولكن سقوط الادّعاء، وإن كنا قد تعبنا من الادّعاء، يمثل مرحلة السعي للانتهاء من إسقاط فلسطين من الوعي الشعبي العربي، فاللغة الرسمية تؤثر في الرأي العام، وإنْ كانت مدفوعة عند معظم الحكّام العرب بالخوف على الكراسي والسلطة.
ويبدو أننا دخلنا في مرحلة الإمعان في التطبيع مع إسرائيل والتنازل الخطابي عن لغة تأييد الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بغضّ النظر عن صدقية هذه اللغة، كأساس لشرعية الأنظمة أو على الأقل ضمانة لبقائها. وهنا يجب التشديد على نقطتين: الأولى، أنه منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، وصعود النفوذ الأميركي في المنطقة وتغلغله، كانت سياسات معظم الأنظمة تُراوح بين إيجاد دور وظيفي في معادلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (الحرب الباردة) ولاحقاً ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والدخول في مرحلة العالم أحادي القطبية، أي مهادنة أميركا، بما يعنيه ذلك من منع مواجهة شاملة أو حتى جزئية مع إسرائيل. الثانية: في الوقت نفسه، اجتاح المنطقة التيار القومي واليساري وخطاب معاداة الإمبريالية، فالاستعمار الغربي (البريطاني والفرنسي والإيطالي) وقمعه الشعوب العربية، زرع روح المقاومة عند هذه الشعوب، التي رفضت إسرائيل وما تمثله من استعمار استيطاني توسّعي بشع في قلب العالم العربي. غير أن انقسام الأنظمة العربية إلى مدعومة أميركيا وأخرى قومية الشعارات أضعف قيام جبهة مواجهة لإسرائيل وما تمثله من امتداد للاستعمار الغربي، إلا أنه، حتى الأنظمة الأكثر قرباً من أميركا أبقت خطاب المعاداة لإسرائيل، حتى وإن كان بعض هذه الأنظمة قد فتح اتصالاتٍ مع إسرائيل وعقد معها تفاهمات مبكرة، غير أن من الثابت والواضح أنه مع اتّساع التطبيع تخفّ اللهجة وتختفي الإدانات لإسرائيل وتضمحلّ الشعارات.
دخلنا في مرحلة الإمعان في التطبيع مع إسرائيل والتنازل الخطابي عن لغة تأييد الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بغضّ النظر عن صدقية هذه اللغة
في حقبة الاتحاد السوفييتي، ومع الاعتراف بنقد جدّي لمواقف موسكو، إلا أن وجود المعسكر الشرقي ساعد العرب وشعوباً أخرى، وخصوصاً الفلسطينيين، على الشعور بأنهم ليسوا وحدهم تماماً، إن كان في المحافل الدولية أو في ابتعاث الطلبة والأسرى المحرّرين والجرحى إلى مستشفيات الدول الاشتراكية للعلاج. لذا، من الضروري الإقرار بأن تفكّك الاتحاد السوفييتي وسقوط المعسكر الشرقي أضعفا قدرة الأنظمة على المناورة في عالمٍ أصبحت تحكمه واشنطن، وإن بدأ ذلك بالتغيّر أخيراً، لكن أميركا ستبقى الأكثر تأثيراً إلى أن تقرّر الصين وروسيا الدفع باسم علاقات دولية جيدة، وإن لم يحدث ذلك.
المهم مما سبق، أن دخولنا مرحلة التطبيع الشامل لا تواجهه معارضة دولية، بل إن توسيع العلاقات التجارية مع إسرائيل أصبحت عاملاً مهماً في توسعة النفوذ الاقتصادي للصين والحاجة الاقتصادية لروسيا وبخاصة بعد دورها في الحرب في أوكرانيا.
كل ما تقدم عوامل مؤثرة في تشجيع الصمت العربي الرسمي، لكن قمع الأنظمة واستبدادها وعدم رغبتها في بناء مجتمعات المواطنة والقانون من أهم أسس الخراب التي سهلت لإسرائيل اختراق المنطقة، فالاختراق ليس عملية سياسية فقط، بل نفسية أيضاً، فالمواطن العربي المحروم حقّه بالمشاركة في صناعة مستقبله ومصير وطنه، وحتى الأمان في حياته وحياة عائلته، ما هي قدرته على المواجهة؟ وهو قد أصبح هدف كل القوى المتسلطة عليه. فمن صار يخشى من كلام أو من سجن أو تشريد أو اختفاء قسري، كما هو الحال في العالم العربي، كيف يمكنه أن يفكّر؟ وإذا فكّر فكيف يمكن أن يواجه تهديداً إقليمياً وجودياً، وهو إسرائيل؟.
من صار يخشى من كلام أو من سجن أو تشريد أو اختفاء قسري، كما هو الحال في العالم العربي، كيف يمكنه أن يفكّر؟ وإذا فكّر فكيف يمكن أن يواجه تهديداً إقليمياً وجودياً، وهو إسرائيل؟
نعود هنا إلى خطاب لأنظمةٍ قومية، تمسّكت بشعارات الحرية والتحرّر وتحرير فلسطين، وعرّفت نفسها بأنها تشكل محور "الصمود والتصدّي" أو "محور المقاومة والممانعة"، وقد مثلت منافسة، عقوداً عديدة، للقوى والأحزاب المعارضة في البلدان الأقرب إلى أميركا، ولكنها، في الوقت نفسه، قمعت حقّ الكلمة لمثقفيها وشعوبها، فإلام انتهى الأمر؟ انتهى إلى دمارها.
لا ننكر هنا دور أميركا الاستعماري القبيح في العراق، فدكتاتورية الرئيس الراحل صدّام حسين لا تبرّر الغزو الأميركي وجرائم تدمير العراق وحرق جنود عراقيين أحياء، ولا الحصار الخانق الذي قتل نحو نصف مليون مواطن عراقي. لكن المقصد أن القمع والتخويف يُفقدان المواطن الثقة بنفسه، ويدفعانه إلى الخروج من العراق واللجوء، ليصبح القمع مضاعفاً من جهاتٍ وطنيةٍ وخارجيةٍ معاً، وتصبح الجبهة الداخلية هشة وسهلة الاختراق. فضلاً عن أن الشعارات الوطنية والقومية والثورية، والمثال الأوضح هنا هو النظام السوري، تصبح فارغة، وكتب تدريس الثقافة الوطنية وأدب المقاومة، بما في ذلك روايات غسّان كنفاني، وأدباء عرب تنويريين وثوريين، وإن كانت قد أسهمت في تطوير وعي مئات الآلاف من السوريين، إلا أنه لا يمكن أن تنتج مواطناً قوياً إن كان فاقداً حريته، بل أصبح بعضهم يجد الشعارات رمزاً لاستبداد النظام لا أكثر، وهي حقّاً مصيبة، بل كارثة في صيرورة الوعي. كذلك، هناك من استسلم إلى الخطاب الاستعماري والصهيوني، وليس الحديث هنا عن الانتهازيين (وما أكثرهم!) وبخاصة بين المثقفين، وإنما أقصد من استسلم يأساً وإحباطاً، لا يريد أن يحارب أو يواجه أو حتى أن يعرف، هو في الأصل يرفض إسرائيل واحتلال أي دولة عربية، أو العدوان عليها، لكن الاستبداد أنشأ لديه حالةً من الهروب، بل وكارهين الشعارات الثورية.
قد نتحسّر يوماً على زمن تشدّق الأنظمة، ولو كذباً، بالتزام الحقّ الفلسطيني ومركزية القضية الفلسطينية وحتمية الصراع مع الصهيونية
النتيجة أن المواطن العربي الذي يؤمن بالهوية والتحرّر أصبح لا يجد له مكاناً، فمنهم من هرب من الملاحقة ومن وجد نفسه في مخيمات، ومن غامر أو ينشد الهجرة، ومن بقي في الوطن صامتٌ أو مغيَّب أو مكبل بقيود قوانين قمعية أو في السجون، أو منفي تماماً، فما يجري حالياً شلّ إرادة شعوب بأكملها، فيما يستمر الاختراق الإسرائيلي، وبقوة جارفة.
لا أريد بثّ الإحباط، بل رسم صورة الواقع بهدف الخروج منها لا تثبيتها، لكننا من دون الإقرار بأن الاستبداد أضعف المجتمعات العربية وقدرتها على المواجهة لن نستطيع التفكير برؤية مستقبلية تحرّرية ترفض الاستبداد بوضوح، ولا تربطنا بثقافة وسياسة وخطاب الصهيونية وأميركا، بل تحرّرنا من الدونية والتبعية. قد نتحسّر يوماً على زمن تشدّق الأنظمة، ولو كذباً، بالتزام الحق الفلسطيني ومركزية القضية الفلسطينية وحتمية الصراع مع الصهيونية، ففي عصر اكتمال التطبيع سيصبح هذا من التابوهات، لكن معركتنا الحقيقية هي معركة الحرية، فالشعارات الثورية مع أنظمةٍ لا تؤمن بالحرية، وليس التدخّل الغربي فحسب، هي أساس الخراب.