لعلّ أبلغ الإجابات تعبيرًا في وصف الطوفان الغزيّ (غير الأخير بالتأكيد)، ما ورد على لسان رئيس الموساد الإسرائيلي السابق عندما سُئل: ألم تكونوا تزعمون أنكم تمتلكون أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم؟ فأجاب "بلى كنّا، حتى أمس". ويقصد بأمس يوم انطلاق عملية طوفان الأقصى، الذي وافق السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي.
وضع هذا المسؤول الصهيوني السابق إصبعه على الحدِّ الفعليّ الفاصل بين زمني الهزيمة والنصر، بكلّ ما يعنيه ذلك من تداعيات وتبعات تترتّب على حالين متضّاديْن يتحوّل بينهما اليأس إلى بأس، والهوان إلى عنفوان، والفرّ إلى كرّ.
والحال أنه سيقال الكثير عن 7/10/2023، لكن أهمّ ما فيه أن إسرائيل لن تكون بعده كما قبله باعتراف قادتها أنفسهم، وكذا العرب الذين غدَت أغزر عباراتهم المتداولة في وصفه: "الحمد لله أن مدّ في عمرنا لنشهد هذا اليوم". وليس ذلك غريبا على أجيال لم تتذوق غير علقم الهزائم منذ أبصرت "الظلام"، فهي أجيال إمّا ولدت على نكسة 1967، أو على مجزرة صبرا وشاتيلا، أو على احتلال بغداد، أو على دمار سورية، فجاء "طوفان الأقصى" ليهزّ جذوعهم المهترئة، وينفضُ عنها غبار المذلّة، بمشاهده التي يروْنها للمرّة الأولى في حياتهم: مستوطنون مذعورون يتراكضون في هجير الصحراء على غير هدى، وجنود أسرى يُنتَزعون من أبراج دبّاباتهم كالحشرات، وجثث مبعثرة في الأرجاء، وقواعد عسكرية مُستباحة للمقاومين، بآلياتها ومعدّاتها التي كانت "حتى أمس" تسدّد فوّهاتها إلى أطفال غزة.
"حتى أمس" كانت إسرائيل الفاعل، والقاتل، والقائل.. "أمّا بعد"، تغيّر كلّ شيء، إذ صارت المفعول به، والمقتول.
"حتى أمس" كان نتنياهو يتريّض على شواطئ عكّا وحيفا، بعد أن وجد له "مكانًا تحت الشمس"، وفق زعمه في كتابه الذي أطلق عليه هذا العنوان، لكن "أمّا بعد"، فقد شوهد كالح الوجه، أصفر البشرة، يبحث عن "مكانٍ في الظلام"، ليُداري خيبته وسوءته، وإحساسه الفائق بالهزيمة التي لم يستوعب فصولها حتى اللحظة.
"حتى أمس"، ضحكوا هم وبكينا نحن، "أمّا بعد"، فضحكنا نحن وبكوا هم... تلك هي المعادلة باختصار، لكن ليس كلها بالطبع، فثمّة جزءٌ منها لا ينسحب على "المستعربين" الذين لم يخرجوا من عباءة الأمس حتى اليوم، وأعني بهم أنظمة التطبيع التي تقيم بيوت العزاء على "الضحايا" الذين سقطوا برصاص "الإرهابيين" من المقاومين الفلسطينيين الذين فجّروا الطوفان، والذين تصدُر عن وزارات خارجياتهم عباراتُ إداناتٍ أولى بها "بيوت الخارج"، فأولئك ما زالوا يعيشون وهْمَ "إسرائيل العظمى"، التي "لا تقهر". أولئك المضبوعون بأسطورة التفوّق الإسرائيلي من عبيد "الأمر الواقع"، بل والمدافعون ليس عن حقّها في الوجود وحسب، بل عن حقّها في الاغتصاب والحرق والتدمير، ولا تطرف لهم عينٌ أمام مجازرها اليومية، لكنهم يقطرون "إنسانية" عندما يتعلّق الأمر بدماء المحتلين والمستوطنين... هؤلاء ليس لنا أن نخاطبهم إلا بـ"أمّا قبل"، لأنهم ماضويّون، توقّف الزمن لديهم عند اللحظة التي قبّلوا فيها يد إسرائيل، ورفعوا أعلامها في عواصمهم.
وللحقّ، سيكون طوفان الأقصى ذا مفعول عكسيّ، أيضًا، ومغايرًا لكلّ الطوفانات التي نعرفها، فهو الطوفان الوحيد الذي لا تكون النجاة منه إلا بالغرق فيه، وأمّا من يعتصم منه بالسفن والقوارب التي يظنّ أنها ستنجيه من حساب عسير قريب، على غرار "فئران التطبيع"، فسيكونون جزءًا من قتلاه، إن لم يُسارعوا إلى إعادة حساباتهم، والقفز من قوارب التطبيع التي يعتصمون بها، والانخراط في لجّة الطوفان التي لن تنحسر قبل أن يستوي الماء على "جبل النار".