أتصل بي أبني بعد أن نشرت موقفي مما يجري في غزة قائلاً"دير بالك بابا ففي الغرب باتوا يراقبون ويعاقبون كل من ينتقد موقف أسرائيل كونه معادي للغرب". قلت سبحان الله فأنت وأخوتك وضعتم فيتو على سفري لبغداد لأني أنتقد الميليشيات وأيران التي تقف ورائها والتي ترى في مواقفي الفكرية تأييداً للغرب!! نفس الشيء فعله كثير من متابعيَّ وقرائي الذين أنتقدوني على موقفي تجاه الحرب في غزة،بعدما كانوا يظنون أني سأقف مع من يقتل الأطفال والشيوخ والنساء العزّل لكي تتسق مواقفي مع الغرب. أتذكر أن ذات الشيء حصل معي حينما ألقت عصابات القاعدة في 2004 القبض على فريقي من الباحثين في الرمادي لأنهم كانوا يسألون أسئلة صنّفوها أنها موالية للأحتلال ومعادية للمقاومة.بعدها بأسبوع واحد فقط أرسل ورائي أحد كبار المسؤولين الأمنيين في الحكومة العراقية آنذاك ،ممن تربطني به علاقة قديمة، طالباً مني الكف عن أنتقاد الحكومة والأحتلال في تقاريري المنشورة لأن هناك نظرة لدى الدوائر الأمنية أني أشجع الأرهاب!! فأجبت،سبحان الله أنتم تتهموني بتشجيع الأرهاب ،والأرهابيين يتهموني بتشجيع الأحتلال والحكومة الجديدة حتى بتّ حائراً في تصنيف نفسي وفكري. أن جذور هذه الثنوية الفكرية راسخة وقديمة في الثقافة العربية والعراقية خصوصاً. وهي راسخة أيضاً في ثقافة كل المجتمعات التي تعرضت لهزات أمنية أو تعاني من قلق أمني. أنها ثقافة "من ليس معي فهو ضدي" التي تبناها الكاوبوي الأمريكي أيضاَ حينما غزا العراق. وهي ثقافة الميليشيات التي لا تعرف سوى السلاح سبيلاً لحسم الخلاف في الرأي. لذا فحين تعارض قصف المدنيين بوحشية في غزة يتم تصنيفك بأنك (حمساوي) رغم أعتراضي التام على فكرة أختطاف القرار السياسي بقوة السلاح. لا يمكن للثنويين أن يتصوروا وجود موقف ثالث لا مع هؤلاء ولا ضد أولئك. الموقف الثالث الذي يتعاطف مع الأنسانية،في حالة غزة،غير موجود في حساباتهم التي تستند الى الموقف الأرسطي(الوسط المرفوع). نفس الشيء فأن معارضة أختطاف الدولة العراقية من قبل الميليشيات لا يعني تأييد الموقف الأمريكي. وأنتقاد السياسات الأيرانية تجاه العراق والمنطقة لا يعني معاداة الشعب الأيراني وتمني الشر لهم. أن التفسير السوسيولوجي لهذه الثنوية بحسب ما نشرته في كتابي الذي نشرته مؤخراً عن ثقافة التصلب في العراق،هو أن التوتر الأمني والتهديدات التي تعرض لها العراقيون على مدار قرون سواء بسبب الحروب التي لم تنتهي أو التهديدات الديموغرافية الناجمة عن الأمراض والأوبئة والفيضانات وسواها من التهديدات رفعت كثيراً من منسوب القلق والتوتر الأمني لدى العراقيين حتى باتوا يرون في كل من لا يصطف معهم أو يعارضهم فكرياً عدو محتمل يجب التعامل معه وفق الفلسفة الشكّيّة (أنت عدوي حتى تثبت أنك صديقي)! هذا المنطق الثنوي(عدو-صديق) بات ينعكس على كل مواقفنا الفكرية حتى غدت مواقع التواصل مواقع للتقاطع والتناحر. أن المحنة التي يعيشها الوسطيون الآن محنة كبرى مشابهة لمحنة خلق القرآن في العصر العباسي ومماثلة لمحنة المكارثية في أمريكا في منتصف القرن العشرين وهما المحنتان التي بسببهما غابت أصوات الذين ليسوا مع هذا الطرف أو ذاك وتم بموجبهما تقسيم الناس (ثنوياً) الى معي أو ضدي. وفي زحمة هذا الصراع ينسى الناس الحكمة الألهية العظيمة التي جعلت الضوء الذي يضيء لنا حياتنا مكونأً من سبعة ألوان وليس لون واحد.