الصواريخ الإسرائيلية التي تنزل على الأهالي في غزّة في هذه الأثناء، وتخلّف المزيد من الشهداء، والمزيد من المشاهد المأساوية التي تنقلها مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المرئية، تحيلني بشكل لا إرادي إلى وضع أولئك الذين يوشكون على الموت من دون أن يدروا، أو يأملون ألا يطاولهم هذا الموت العشوائي. يتعلّقون بالدعاء والرغبات بأن يتوقّف القصف، ربما حتى يجدوا مخرجاً أو منفذاً إلى مناطق آمنة، رغم أن هذه المناطق الآمنة المُفترضة لم تسلم من القصف أيضاً.
إنه شعورٌ ليس غريباً عندي، ولا عند الأجيال العراقية التي عايشت الحروب المتتابعة 40 عاماً. أتذكّر بوضوح أولى طلعات الطيران الإيراني على بغداد في سبتمبر/ أيلول 1980، كنتُ طفلاً في الثاني الابتدائي، أنظر إلى السماء وأرى حطام الطائرة الإيرانية التي ضربتها الدفاعات الجوية العراقية، وقد تشظّت في السماء، وخيّل إليّ أن حطامها سيسقُط فوق رؤوسنا مباشرةً، لذلك أسرعنا في الركض، ولكن صور الركام المتطاير بقيت معلّقة فوقنا، ولم نكن نعرف حينها أننا نتابع مشاهد بعيدة، وأن الحُطام سقط لاحقاً في مكان ما خارج حدود الحيّ السكني.
في منتصف الثمانينيات، وبعد أن بلغت الحرب حالةً من الاستعصاء، وعدم قدرة النظامين، العراقي والإيراني، على إحراز نصر حاسم، بدأت حرب قصف المدن بصواريخ أرض/ أرض. وكان هذا فصلاً جديداً من رعب الصواريخ. وقد سقط صاروخٌ لم ينفجر في حيّنا السكني، وهرعت الناس تركُض لرؤية هذا الصاروخ وما فعله من تهديم سقفٍ وواجهة بيتٍ لعائلةٍ في حيّ فقير.
حين انتهت الحرب عمّ الفرح الناس، من دون أن يكون أغلبهم معنيا بمن انتصر أو انهزم. إن نهاية الحرب، أي نهاية التهديد بالموت، هي بحدّ ذاتها نصر للسكّان المدنيين.
انتقلنا مع حرب "عاصفة الصحراء" الأميركية على العراق في 1991 إلى مستوى أعلى. لقد أمطر الطيران الأميركي والمتحالفون معه مدن العراق ومنشآته الحيوية بأكثر من عشرة آلاف طلعة جوية أسقطت 88500 طن من القنابل. نالت بغداد النصيب الأكبر منها، ولم يكن من السهل، وأنت تجلس في بيتك المحروم من التيار الكهربائي، أن تتجاهل حقيقة أن أحد هذه الصواريخ ربما يجد طريقه إلى سقفك المتهالك.
لم نكن ننام حينما تبدأ الرشقات الصاروخية تدكّ المدينة، ونسمع رجّة سقوطها أحياناً. إنه موتٌ أعمى، يشبه هذا الذي ينزل على رؤوس الغزّيين في هذه الأوقات، لن يثق أحدٌ بأنه يعرف طريقه إلى هدفه جيداً، خصوصاً مع الشكّ بأن لديه هدفاً غير قتل المدنيين. وفي ليلةٍ شديدة القصف، ركبنا مع والدي في سيارته وغادر بنا إلى الشمال، إلى مدينة بعقوبة. وخلال الطريق، فاجأنا انفجار رهيب في مخازن للوقود على جانب الطريق. ارتبك المقود في يد والدي، وكاد يصدم سيارة هاربة أمامه.
تكرّرت المشاهد ذاتها مع حرب 2003. واضطرُرنا أيضاً بسبب شدّة القصف إلى مغادرة بغداد، وبقينا في قرية نائية، نسكن بين جدران بيتٍ طينيٍّ حتى انتهت الحرب. ... إنه شيءٌ غير عادل أن تتلقّى الموت على هيئة صاروخ أعمى. لا يترك لك فرصة الاستعداد للموت، أو محاولة إنقاذ عائلتك على الأقل.
ورغم كلّ التشابه ما بين التجربتين، يبقى هناك فارق أساسي؛ فنحن نعرف أننا بهروبنا من الصواريخ العمياء على بغداد سنعود فيما بعد إلى بيوتنا، أو ما تبقّى منها، إن كان حظّها سيئاً وطاولها القصف، ولكن هذا الفلسطيني الهارب، يخامره شكّ مزمنٌ بأنها هجرةٌ أخرى ونزوح آخر، وأن هناك إمكانية واقعية ألا يعود إلى بيته مرّة أخرى.