كثيرا ما كان الإعلام الغربي يعدّ مثالا للمهنية والموضوعية، فمدارسنا الإعلامية التي نشأت سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد أو في الرباط أو الجزائر، كانت تفخر بانتمائها إلى المدرسة البريطانية أو الفرنسية في الإعلام، كيف لا وهما أكثر عراقة وصرامة مهنية وموضوعية وقدرة على نقل الحقيقة كما هي من دون رتوش، مع اختلاف الآليات والإمكانات والأساليب، وكأنها عقدة الخواجة التي لاحقتنا حتى إلى بلاط صاحبة الجلالة.
هذه المدارس العالمية في الصحافة التي كانت تنظّر ليل نهار عن صرامة أدواتها في تقصي الحقائق ونشرها، وكانت مثالاً لنا ومدرسة، سرعان ما كانت تتخلّى عن قفّازاتها الموضوعية والمهنية وتظهر وجهها القبيح عند كل اختبار، لتسقُط في فشل اختبار أمثولة الموضوعية التي كانت دائما ما تعيب بها الإعلام العربي.
ولسنا هنا في وارد الدفاع عن الإعلام العربي، والذي لم يتمثّل إعلاماً ذا أسسٍ مهنيةٍ صارمة تتمتع بالموضوعية،إلا في حالاتٍ نادرة، تخلّت فيها سلطة الرقيب عن دورها ونجحت سلطة الضمير في أن تكون محله وتنسجم مع ما يريد كل متابع لوسائل الإعلام المختلفة. ولكننا اليوم في خضم مناقشة يجب أن تكون مستفيضة، ويجب أن تكون محلّ اهتمام من الأكاديميين العرب، قبل الغربيين، حيال الانحدار الأخلاقي وغير الموضوعي الذي سقطت به وسائل الإعلام الغربية في تغطية العدوان الإسرائيلي على غزّة.
فضائيات أميركية منعت مذيعيها المسلمين من الظهور خلال تغطية الحرب على غزّة، حتى لا يظهروا أي تعاطف مع أهالي القطاع
منذ اليوم الأول لمعركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وقع الإعلام الغربي، بمحض إرادته وليس مرغما، في وحل الانحياز. وعندما نتحدّث عن وحل الانحياز، نتحدث عمّا يمكن أن يسبّبه هذا الانحياز من تأثيراتٍ وارتداداتٍ، يبقى أثرها طويلا وطويلا جدا.
استسلم الإعلام الغربي بالكامل للرواية الإسرائيلية ووقع أسير سرديةٍ لم تجد أفضل من الردّ على انهزامها أمام مقاتلي المقاومة الفلسطينية سوى ترديد أكاذيب سعت، من خلالها، إلى تشويه الحركة الوطنية الفلسطينية المسلحة المدافعة عن أرضها، ومحاولة كسب تعاطف العالم الغربي بشتى أطيافه، بل تجاسرت هذه السردية الإسرائيلية على محاولة تصديرها إلى العالم العربي والتأثير فيه من أجل سحب البساط مسبقا من تحت أرجل المقاومة الفلسطينية حيال أي تعاطفٍ عربي، فراحت تتحدّث عن قطع رؤوس أطفال واغتصاب نساء، وأخيرا لم تجد أفضل من "داعش" لتجعله رديفا لحركة حماس، وهي الأكاذيب التي ردّدها الإعلام الغربي، بل كانت مهيمنة على خطاب رئيس الولايات المتحدة، جو بايدن، الذي يُفترض به أن لا يتحدّث عن افتراضات، وإنما عن أدلة، كيف لا وبلده الراعي الأول للسلام ومقترح حلّ الدولتين الذي يمكن أن يؤدّي إلى نهاية الصراع في الشرق الأوسط.
وبعيدا عن الأسباب التي دفعت بايدن، ومن خلفه كل إدارات العالم الغربي المتحضّر على ترديد أكاذيب الرواية الإسرائيلية التي ثبت بطلانها لاحقا، فإن ثمة أسئلةً يجب أن تفرش لها وسائل الإعلام الغربية ساعاتٍ من النقاش: لماذا انساق هذا الإعلام وراء أكاذيب إسرائيل؟ لماذا لم يتحقق، ويفترض أن هذا من دوره؟ لماذا راحت بعض وسائل الإعلام الغربية تزيد حتى على الرواية الإسرائيلية الكاذبة، وتمنحها صفاتٍ أخرى، وتحاول أن تجد لهذه الكذبة بدل السبب مئات الأسباب؟
يقول أستاذ الإعلام المتخصص دايا ثوسو، في مقال له نشر عام 2004، إن الإعلام العالمي يتكتّل، منذ عقود، في ست شركات تمتلك أغلب وسائل الإعلام في العالم، من صحف إلى وكالات أنباء إلى تلفزيون وحتى دور نشر، وتخضع هذه الوسائل الإعلامية لمصالح اقتصادية وسياسية، وغالبا ما تكون تغطيتها للقضية الفلسطينية نابعة من هذه المصالح. وتفيد دراساتٌ حاولت تقصّي تغطيات الإعلام الأميركي على سبيل المثال، بالمقارنة مع نظيره الإسرائيلي وقت حدوث الأزمات، بأنه يكون أكثر انحيازا لإسرائيل.
مقولة الموضوعية في الإعلام الغربي باتت تحتاج لمراجعة، ولم يعد ما يصدر عنه مسلّما به وكأنه ثوابت
وفي معركة طوفان الأقصى، ورغم كمية الأكاذيب التي سعى الإعلام الغربي والأميركي لترويجها وشيطنة "حماس"، إلا أن وجود الفضاء الرقمي نجح، إلى حد ما، في دفع وسائل إعلام غربية كثيرة إلى التراجع، أو على الأقل تحجيم انحيازها للسردية الإسرائيلية ومحاول الموازنة من خلال مساحة للرأي الفلسطيني المناهض للاحتلال. ولم يتوقف الأمر عند ترديد أكاذيب إعلام إسرائيل ونقل سرديتها الرسمية أنها حقائق مسلم بها، بل وصل الأمر إلى أن فضائيات أميركية منعت مذيعيها المسلمين من الظهور خلال تغطية الحرب على غزّة، حتى لا يظهروا أي تعاطف مع أهالي القطاع، بينما فتحت واسع المجال أمام مذيعيين معروف عنهم ولاؤهم لإسرائيل من دون مواربة.
السؤال الذي يبرُز بقوة أمام هذا الانحياز الفاضح للسردية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، لماذا؟ لماذا هذا الانحياز؟ هل فعلا أن رؤوس الأموال الإسرائيلية واليهودية عبر العالم تسيطر على كبريات وسائل الإعلام الغربي والأميركي؟ أم هو ولاء ديني لدولة إسرائيل وسردية عقائدية متوارثة تسيطر على هذا الإعلام؟ أم أن الأمر يتمثل في عقدة الذنب التي يعيشها الغرب تجاه اليهود والتي تدفعهم وإعلامهم إلى الانحياز الكامل لكل ما يصدر عن تل أبيب من دون مراجعة؟
الأهم من هذا كله وذاك أن مقولة الموضوعية في الإعلام الغربي باتت تحتاج لمراجعة، ولم يعد ما يصدر عنه مسلّما به وكأنه ثوابت. نعم هي ليست المرّة الأولى التي يسقط فيها الإعلام الغربي في فخّ المعايير التي وضعها هو قبل غيره، ولكنها هذه المرّة كانت فاقعة ومخزية ومعيبة.