يذكر المترجم رشيد بازي في مقدمة كتاب "تاريخ الكذب" للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي ترجمه، أن القدّيس أغسطين يذهب إلى أن في وسعنا أن نقول قولا خاطئا من دون أن نُعتبر كاذبين، إذا كنا نعتقد، عن حسن نيّة، أن ما نقوله صحيح، وألا يكون قصدُنا خداع الآخرين. لاحظ أننا نتكلم عن مرتبة قداسة عظمى وكونية. فما بالك "بسرير الساسة"؟، نحن أمام مائدة كذبٍ تلفزيونيةٍ ترعاها الأمم الأكثر عتادا وتسليحا ومنعة، كي تحاصر الضعفاء في ثكناتهم وأسفل منازلهم، لأن الضعفاء تحت الأرض يقاومون عن أطفالهم ونسائهم، وآلة جمع الكذب تعمل بكامل نهمها على كل الشاشات. فكيف يقتُل الضحيّة أطفاله بصواريخ تمتلك كل هذا الذكاء، وكان الأوْلى به، وهو المحاصر، أن يرميها أولا على مستشفيات عدوّه أو تجمّعاته العسكرية، طالما امتلك كل هذه البراعة منقطعة النظير.
كذبٌ بلا حتى تمهّل أو تمحيص أو رويّة، وكأنها تسبق كل التحقيقات عمداً، رغم المليارات التي تم تحديدها كي تدفع بها أميركا إلى إسرائيل، وهذا غير الأسلحة والسفن والبوارج. أبعدَ ذلك هناك حاجة مستعجلة إلى كذبٍ مستعجلٍ وبارعٍ ولئيم؟
حينما يمشي الرؤساء فوق الماء في الحرب، ويتلاعب أكبرُهم سنا، واقتصادا، وديمقراطية "كما يُقال" بالكلمات أمام الكاميرا، وكأنهم كالعرّافين أمام شعوبهم خوفا على كراسيهم التي تهتزّ أمام انتخاباتٍ قادمة، محاولة عرجاء للتلاعب بالكلمات، مثل "أعتقد"، و"على ما أظنّ"، هل لأن الحرب فضّاحة أكثر مما يجب، فعلى الرئيس أن تكون أكاذيبه هكذا، عالية الهمّة وناعمة النبرة، حتى يثبت العكس بعد سنوات، ويكون صاحب الكذبة ساعتها، إما في القبر أو خارج الحكم يرعى أحفاد أحفاده. الحرب "دفّانة الجرائم" تلك، لماذا يكثُر فيها الكذب، وتُعرض ثمراتُه العفنة أولا بأول، وعلى الهواء مباشرة.
دائما، يرتبط الكذب بالصغار، وخصوصا الأطفال للعب ذلك الدور اللطيف داخل حدود الأسرة. تظلّ الكذبة حلوة في أفواه الرواة من العائلة، حتى بعد أن يصير الطفل كبيرا وصاحب حظوة أو منصب، وتصبح نادرة جميلة من نوادر الطفولة، تستعاد على سبيل السّمر والتسلية. أما أن يكذب ذلك الشيخ الكبير، وهو على أبواب الثمانين أو تعدّاها، هكذا مرّة واحدة، وهو، في الوقت نفسه، يرى الأطفال يُقتلون والمذابح على قدم وساق من بعضها، وكأنها مسبحة دموية أمام ناظريه، كل يوم، من دون أن يراجع كذبته أو يتراجع عنها، ولكنه كل حين يُحسِن بديعها بلفظٍ أو بعبارةٍ أو بجملة، مناورا في نسيانها أو حتى محوها لو استطاع من الأرشيف، لا على سبيل الاعتراف، ولكن على سبيل التمادي، بعدما مشت في البحار أبحرٌ أخرى من دماءٍ يتم نسيانها كل يوم.
ليس هذا بالخطأ، كما يحلو للقدّيس أغسطين أن يسمّيها، بل خطيئة. لو كنّا أمام شاعرٍ يناور بالكلمات والمجازات والاستعارات لهان الأمر، وصار مستحبّا وجميلا وشاعريا وديمقراطيا أيضا. وللأخيلة دلالات مفتوحة على كل التأويلات، ولكننا أمام بوّابة جهنمية لحربٍ تأكل الأطفال والنساء بأعداد هائلة كل يوم، فكم حصدت "كذبة النووي العراقي"، من عشرات الآلاف من البشر! وكم جهّزت أميركا لها من طائراتٍ وسفنٍ وبوارج ومليارات، وخسرت أيضا مع الخاسرين!
يقول هيمنغواي: "... من الطبيعي أن يكون أفضل الكتّاب كذّابين. جزءٌ كبيرٌ من حرفتهم أن يكذبوا .. أن يخترعوا .. إنهم كثيرا ما يكذبون من دون وعي، ثم فيما بعد يتذكّرون كذبهم بندم شديد".
وكأن الندم لا يلحق بذيل السياسي أو الرئيس أبدا، وكأنهم جُبلوا على محو الندم أولا بأول، كي لا تتوقّف مسيرتهم، وكي يظلّ الكرسي كما هو، ولا يقترب منه أحد. أي أحد. نحن أمام معضلةٍ تنتهي، بالطبع، في الدول غير الديمقراطية أخيرا بالثورات والقتل والدماء لقلّة من رؤسائهم. ولكن كيف يكون الحال في الدول الديمقراطية جدا، والتي يصل فيها الرئيس بالصندوق، ويلمّ كتبه في آخر الفترة بالصندوق أيضا، إلا في حالة ترامب الذي أراد، بكل عنفوانه، أن يقلّدنا، فتشبث بالكرسي وبالكذب، حتى آخر ثانية وما بعدها.
هل لذلك يحاول بايدن، بكل هدوء، أن يقتدي بسابقه، رغم خسارة الأخير ومحاكمته؟ شيءٌ أيضا يستحقّ التأمل والعجب.