تتوقّف مواجهة موقفٍ ما على مدى فهم مساراته وسياقاته، إضافة إلى البناء على ذلك الفهم، سعياً إلى إنتاج سرديةٍ مختلفة، شكلاً ومضموناً، تدحض الرواية الخاطئة وتروي تفاصيل الحقيقة. ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا بامتلاك المعرفة والقدرة، مضافاً إليهما معرفة دقيقة لتوقيت الرّد بمضمون الحسم، مع الاحتفاظ بهامش النّفوذ إلى العقل والوعي وإحاطة ذلك، كله، بهالة من الهدوء وحسن الاستخدام للُّغة والأسلوب واستغلال الإمكانات المُتاحة، مهما كان حجمها، من مقابلات، تقارير، فضاءات للكتابة في الصحف الغربية، أو استغلال العالم الافتراضي بما يخدم القضيّة، يردُّ الهجوم، يفرض سردية الحقيقة، ويكسر استراتيجية الدّعاية المضادّة.
نعلم أن السردية الصهيونية تستغلّ أحسن استغلال نفوذها في دهاليز الإعلام الغربي، كما تستغل الانحياز السّياسي والتّحالف الاستراتيجي الغربي لفرض رؤيةٍ محدّدة بمفاهيم معيّنة، وهو ما يبرُز في استوديوهات القنوات الإخبارية الغربية كلّها، حيث انتشرت رواية الصّهاينة لأحداث "7 أكتوبر" بتوصيفٍ يحمّل مقاومي كتائب عز الدين القسّام وزعماء حركة حماس أوزاراً أخلاقية من ممارسة الإرهاب، تقتيل المدنيين، بل قطع رؤوس الأطفال وحرق جثث القتلـى وذلك كلُّه حركة استباقية لتبرير المسعى الإجرامي في تحويل الهجوم على غزّة إلى ردّ مظلمة، إلى دفاع شرعي وسعي، للمفارقة، إلى إنقاذ الغزّاويين من خطر استخدام كتائب عز الدين القسّام لهم دروعا بشرية، ما سيرفع الكلفة من جهة المدنيين الذين سيقعون ضحايا لقنابل الجيش الاستيطاني الصُّهيوني.
يعرف الصّهاينة، تمام المعرفة، أنّ الكذب في الإعلام يفتح الباب أمام تداعيات لكسر إرادة الطّرف الآخر حتى مع اعتقاد أن الكذب سيتم كشفه، خصوصا مع الأدوات التّكنولوجية الحديثة ومصدر هذا اليقين الصُّهيوني تبنّيهم مقولة وزير الدّعاية النّازي غوبلز إنّ تكرار الكذب يفتح الباب، فترة، ولو وجيزة، لتصديقه، ولا يضرُّ، بعد ذلك، الحصول على ما يدحض الرّواية، كما جرى مع صور الرُّؤوس المقطوعة، زعماً، لأطفال في المستوطنات بعد عمليات 7 أكتوبر.
يركّز الصهاينة على سردية الإرهاب لشرعنة الإجرام الذّي يقوم به جيشُهم ضد الفلسطينيين
ومن ناحية المحتوى، يركّز الصهاينة على سردية الإرهاب لشرعنة الإجرام الذّي يقوم به جيشُهم ضد الفلسطينيين. وربما يبرز هذا، أكثر، بعد تشبيه السردية الدعائية هجمات كتائب عز الدين القسّام على مستوطنات إسرائيلية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بأنها بحجم هجمات 11 سبتمبر ضد الولايات المتحدة، ما يستدعي، في المخيال الغربي، الصراع الحضاري، والطبيعة الإسلاموية للأحداث. وبالتالي، جاء حديث الرّئيس الفرنسي، ماكرون، عن مبادرة شبيهة بمبادرة محاربة مسلّحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في العراق، أي التّحالف الدُّولي ضدّ الإرهاب، وذلك كلُّه لوقف أيّة محاولة لتوصيف ما يقوم به الصّهاينة في غزّة بجريمة حرب، من ناحية، والإبقاء على المساندة الغربية، على الأصعدة كافة، خصوصاً الدعائية منها، للسّردية الصُّهيونية وللجيش الصهيوني، من ناحية أخرى.
هناك ناحية ثالثة ساهمت في انتشار السّردية وتوسُّع مداها، وهي المرتبطة بالدّعم الأميركي الكامل، في سنة انتخابية حسّاسة جدّاً، للدّيمقراطيين في الحكم وللجمهوريين الذّين يطمحون للعودة إلى البيت الأبيض، في 2024، وهي مساندة اشتملت على كلّ شيء يريده الكيان الصُّهيوني من سلاح ودعم سياسي في أروقة المنظّمات الدّولية، بل امتدّ ذلك إلى تبنّي الرّواية الصُّهيونية في كل أبعادها، حتّى التي تبين أنّها كذب محض، على غرار ما جرى مع الرّئيس الأميركي وقناة CNN بشأن صور الأطفال المقطّعة رؤوسهم، زعماً.
بالنتيجة، لا يمكن لتلك السردية أن تثبت إذا لم يكن لها أجندة متكاملة، على المستوى الإعلامي، بصفة خاصّة، لحبك تفاصيلها، حيث يجري فتح القنوات أمام الصوت الآخر. ولكن بشرط الانطلاق من رواية الصّهاينة الأحداث وبناء كلّ المقابلات على وجوب التّنديد بجرائم حركة حماس، ونعتها، وكتائب عز الدين القسّام، بالإرهاب، ثم الاستمرار في القول إنّ كلّ ما يجري مجرّد الدّفاع عن النّفس، وأنّ الظّالم، في كلّ الجرائم، للمفارقة، هو كتائب القسّام والفلسطينيون الذين قبلوا بأن يكونوا دروعا بشرية. وقد اتسع مدى المساندة الإعلامية لهذه السّردية، في كلّ الأماكن، حتّى الملاعب الرياضية، مع تجهيز أرمادة من العقوبات ضد كلّ من تسوّل نفسُه التغريد، ورواية المروية الفلسطينية للأحداث، أو محاولة وسم ما يقوم به الجيش الصُّهيوني بأنّه جرائم جرب، كما جرى مع كثيرين حاولوا، مع نجاح بعضهم، في قلب السّردية الصّهيونية ودحض روايتها في بلاتوهات تلك القنوات الغربية. ولكن من دون التّأثير المطلوب على القضيّة والحقّ.
الرد الحاسم، بعد فهم تفاصيل السردية الصهيونية، لا يتأتى إلا ممّن يُحسن الإعلام والتعامل مع المقابلات، ليس لإبراز شخصية المحاور، كما فعل باسم يوسف
أما الرد الحاسم، بعد فهم تفاصيل السردية الصهيونية، فلا يتأتى إلا ممّن يُحسن الإعلام والتعامل مع المقابلات، ليس لإبراز شخصية المحاور، كما فعل باسم يوسف الذي نجح في مجاراة الصحافي البريطاني. ولكنه، بعد ذلك، حوّل النجاح الى نجاح شخصي من حيث عدد المشاهدات والبحث عن الشُّهرة، وهذا شأنه. لأنّ بعضاً ممّن تعرّضوا للسّردية الصهيونية، أمام كاميرات القنوات الإعلامية الغربية، خصوصاً بعض ممثّلي السُّلطة الفلسطينية، في بريطانيا وفرنسا، كان النّجاح نصيبهم في ذكر تلك المفاتيح الإعلامية للتّصدّي للسّردية الأخرى، وأوّلها، شكلاً، هو الهدوء وعدم مجاراة الإعلامي الغربي في محاولة التّلاعب بالعبارات أو استباق المقابلة بوجوب التّنديد بما فعلته كتائب القسام، وأنّها القضية الأم، وليس ما يجري في فلسطين.
ثاني تلك المفاتيح معرفة معاني العبارات، خصوصاً المجازية، منها، في اللُّغة الأجنبية لأنها كفيلة بتحويل المقابلة إلى لعبة لغوية رفيعة المستوى، يجاري فيها من يظنُّه الصّحافي الغربي لقمة سائغة وقابلة للتّلاعب والإضعاف/ الإخراس، ويعامله بالمثل، أي يستقبل الأسئلة، ثم يحوّلها إلى هجمات مضادّة بقلب محتواها وإعادة صياغتها في شكل السردية المقابلة تماماً، مثل ما فعل ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في بريطانيا، حسام زملط، عندما قلب سؤال التنديد بما فعلته "حماس" إلى ذكر ما يجب التنديد به، فعلاً، وهو الاحتلال الاستيطاني، بمعنى أنّ الفعل المستوجب للتّنديد وجود الاحتلال، وأنّ ما قامت به كتائب القسّام هو رد فعل على حصار يدوم منذ 2007، على غزّة، ثمّ الاستهداف والقتل اليومي، الهجمات المتكرّرة والغلق المستمر لكلّ مناحي الحياة على الفلسطينيين. وهو، للذّكر، الخطاب نفسه الذّي تضمّنته كلمة الأمين العام للأمم المتّحدة، أنطونيو غوتيريس، في مجلس الأمن، عندما قال بأنّ هجمات القسّام لم تأت من فراغ، أي أنها ردّ فعل على ظلم واقع في غزّة، على الأقل، وفلسطين، بصفة عامّة، ضمنياً.
إجراءات الحلّ السّلمي يرفضها الصّهاينة، ممّا يوجد الحنق وإرادة تحريك الحل سعياً إلى فرض رؤية مستقبلية أخرى، مغايرة للتّي يفرضها
ثالث تلك المفاتيح استخدام حجج السّردية الصُّهيونية، نفسها، لدحضها، ثمّ تحويلها إلى أداة للهجوم بالسّردية المقابلة، على غرار استدعاء منجزات اتّفاقات أوسلو ثمّ حلّ الدّولتين. وهذه كلّها إجراءات الحلّ السّلمي التّي يرفضها الصّهاينة، ممّا يوجد الحنق وإرادة تحريك الحل سعياً إلى فرض رؤية مستقبلية أخرى، مغايرة للتّي يفرضها، بالأمر الواقع، الصهاينة، من خلال الاستمرار في حبس الفلسطينيين، قتلهم بنقص/ منع الرّعاية في السُّجون، قتلهم في الحواجز بزعم التهديد الإرهابي، الاجتياح المتكرر للمسجد الأقصى، الاستمرار في بناء المستوطنات، ورفض حل الدولتين أو الاتّجاه نحو الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية بموجب اتّفاقات أوسلو للعام 1993.
قد يكون خاتمة دحض السّردية الصُّهيونية الاستعانة بنقد بعض الشُّرفاء الغربيين لها، واستدعاء حجّة أنّ في الغرب من يعتبر أنّ الإنسان قيمة عليا تتساوى في كل بقاع الأرض وليس الكيل بمكيالين، وهي استراتيجية أثبتت الفترة الحالية نجاحها، إذ أنّها ساعدت على احتواء تلك السّردية الغربية المساندة للصّهاينة في إعلامهم، وفي دارهم، بل في مؤسّساتهم (البرلمانات والتظاهرات في الشّوارع الغربية، بالرغم من المنع)، ومثالها الأبرز إصرار زعيم حزب فرنسا الأبيّة، في فرنسا، ميلونشون، على مقارعة السّردية الصُّهيونية والرّسمية الفرنسية، بحجج هي عينها التّي نحتاجها في مقابلاتنا الإعلامية مع القنوات الغربية، أو في الرّد على المحتويات الافتراضية، بالشّكل والمضمون، المشار إليهما باعتبارهما مفاتيح الحرب الإعلامية التّي لا يجب أن نخسرها، أبدا.