لا يمكن الخوض في أمر الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزّة، من دون الوقوف على أسبابها ودوافع أطرافها المباشرين: (المقاومة الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية، والاحتلال الإسرائيلي)، وأطرافها غير المباشرين: (محور الممانعة، والغرب). بل حتى دوافع من ليسوا طرفًا فيها إلا أن تداعيتها تطاولهم، خصوصا دول الطوق: (مصر والأردن). والشرق: (روسيا والصين).
إن كان الدافع المعلن للمقاومة الفلسطينية، كما يتضح من اسم العملية "طوفان الأقصى"، هو الدفاع عن المسجد، إلا أن الاستفزازات الإسرائيلية والاعتداءات على المقدّسات الإسلامية والمسيحية في القدس ليست الدافع الوحيد لخوض هذه المعركة، كما أنه لا يمكن حصرها أيضًا في العامل الاقتصادي أو انسداد الأفق السياسي وتبدّد عملية السلام، وإنما لعوامل كثيرة متداخلة، منها:
الدوافع الداخلية: إضافة إلى الاستفزازات الإسرائيلية المستمرّة والممنهجة، وإلى الوضع الاقتصادي البائس الذي يعانيه قطاع غزّة منذ أكثر من عقد ونصف العقد، فإن استحالة المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام قد أوصدت الباب أمام أي تقدّم في المشروع السياسي للمقاومة الفلسطينية، الأمر الذي جعل الخيار العسكري يبدو كأنه الخيار الوحيد، ولو بغرض إحياء الخيار السياسي أصلًا.
عزّز من ذلك اتّساع الهوّة بين القيادات المدنية والعسكرية في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أو بين قيادات الداخل والخارج، إذ يعتقد أن القيادي المحرّر، يحيى السنوار، قد مثّل نقلة في إحكام سيطرة العسكريين والجناح المقرّب من طهران داخل الحركة على القرار السياسي والعسكري لها، فرمّمت "حماس" علاقتها بالنظام السوري، وتجاوزت الصداع الذي أحدثته الثورة السورية في العلاقة بينها وبين حلفائها في محور الممانعة، ما أطلق العنان لطموحات القيادة العسكرية لكتائب عز الدين القسّام وبقية فصائل المقاومة، في مقابل واقعية القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية.
نجحت المقاومة، بشكل لا نظير له، في مراكمة القوة والنيران، تحت الحصار، فتأكّدت ثقتها في نفسها، وعزّز من ذلك تشخيصها الدقيق وهن جيش الاحتلال وترهله
وقد تجلت هذه الهوّة، وهذا الطموح، سابقًا في مواجهة "العصف المأكول" سنة 2014، حين أعلن الناطق باسم كتائب عز الدين القسّام، أبو عبيدة، مطالب المقاومة لإنهاء الحرب، وتضمّنت إنهاء الحصار على غزّة، عن طريق إنشاء ميناء ومطار، لا يخضعان لسلطة الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وقتذاك، إسماعيل هنية، أصدر بيانًا بعدها، أسقط منه مطالب كتائب القسّام الطموحة في المطار والمرفأ، واكتفى بمطالب أكثر واقعية. وبحسب متابعين، مثلت خطوة إعدام القيادي في كتائب القسّام، محمود شتيوي (أبو المجد)، علامة أخرى على مدى نفوذ جناح يحيى السنوار على قرار الحركة. ومن جديد تجليات هذا الخلاف في الرؤى والمواقع، تهديد أبو عبيدة بإعدام الأسرى المدنيين على الهواء مباشرة، في حال أقدم الاحتلال على قصف المدنيين الفلسطينيين بلا سابق إنذار، وهو ما تراجع عنه في خطابه اللاحق تجاهلًا. وأيضًا، تعثّر عملية مبادلة أسرى أربعة لدى كتائب القسّام، حيث تتمسّك إسرائيل بأن الجنديين الأساسيين هما بالفعل قتيلان، الأمر الذي حرم المقاومة من تحقيق إنجاز وطني يدعم موقفها.
وقد نجحت المقاومة، بشكل لا نظير له، في مراكمة القوة والنيران، تحت الحصار، فتأكّدت ثقتها في نفسها، وعزّز من ذلك تشخيصها الدقيق وهن جيش الاحتلال وترهله، وإيمانها العميق بقابليته للانكسار.
ولأن النضال الفلسطيني لانتزاع حقوقه ليس وهمًا أو محض شعارات، ولأن من في غزّة ليس لديهم ما يخسرونه بالفعل، ولأن نموذج حرب سيف القدس 2021 كان ملهمًا، إذ حظيت المقاومة الفلسطينية بدعم شعبي عالمي غير مسبوق، واتّحدت فيها الساحات الفلسطينية بشكل لا مثيل له، إذ لم تتحرّك الضفة الغربية والشتات والقدس فقط، وإنما للمرّة الأولى تحرّك الفلسطينيون داخل الخط الأخضر، وخصوصا ما حدث من احتجاجات واسعة النطاق، وعنيفة إلى حدّ ما في مدينة اللد.
هزيمة إسرائيل في أي حرب مفتوحة هي بمثابة إعلان عالم متعدّد الأقطاب، وانهيار حقبة العالم ذي القطب الواحد
الدوافع الخارجية: فرصة الانشقاق الإسرائيلي على خلفية سعي حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، إلى إقرار تعديلاتٍ تقيد من صلاحيات المحكمة العليا، أعلى سلطة قضائية لدى الاحتلال، تحصينًا لنفسه وزوجه من اتهامات طاولتهما بالفساد، وهو ما أدّى إلى صدع كبير في الجبهة الداخلية الإسرائيلية اجتماعيًا وسياسيًا. كما مثل التجاوز العربي للمسألة الفلسطينية في عملية التطبيع مع إسرائيل استفزازًا كبيرًا للفلسطينيين، وأفزعهم، إذ إن عملية التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب، تعطي، في نظر كثيرين، إسرائيل غطاءً عربيًا لتصفية القضية الفلسطينية.
وإذا افترضنا أن قرار هذه المعركة كان بالتنسيق مع محور الممانعة، فإن بدء المقاومة الفلسطينية هذه المعركة لازم لإعطاء الشرعية لبقية المنتمين للمحور، إن أرادوا مهاجمة إسرائيل دفاعًا عن القضية الفلسطينية.
دوافع إسرائيل: الانتقام هو الدافع الإسرائيلي الأبرز، نظرًا إلى ما مثلته عملية 7 أكتوبر من ضربة استراتيجية لمعادلة التفوّق الإسرائيلي، وقدرة دولة الاحتلال على حماية المطبّعين الحاليين والمستقبليين، الطامحين إلى حمايتهم من التهديد الإيراني. كما ضربت العملية استعادة معادلة الردع الإقليمية التي استقرّت عقودا، والرسالة إلى الأعداء في إيران ولبنان وسورية والعراق واليمن أنها لا زالت قادرة على إلحاق الهزيمة بهم في أي مواجهة مقبلة. ومثلت الحرب فرصة لنتنياهو لحلحلة أزمته السياسية، إلا أن الدافع الأهم لهذه الحرب تصفية القضية الفلسطينية، والتخلص من كابوس غزّة، سواء بإبادتها، أو بتصديرها إلى مصر.
إشكالية الحرب بالنسبة لإسرائيل
تكمن إشكالية الحرب بالنسبة لإسرائيل في أن مبادرة المقاومة، والانتقال من مربّع الدفاع إلى مربّع الهجوم، قفزة لا يمكن السكوت عنها في ميزان القوّة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية. كما أن الحساسية الإسرائيلية المفرطة بشأن الخسائر البشرية، خصوصا في ملف الأسر، حيث تفيد تقديرات بأن ما جرى هو الخسارة البشرية الأكبر لإسرائيل في معركة واحدة على الإطلاق، تمثل تحديًا حقيقيًا أمام إسرائيل، ليس فقط لحكومة نتنياهو المعنية بعدم دفع الكلفة السياسية الباهظة لهذا الإخفاق، ولكن لأنها ضربة استراتيجية لإسرائيل باعتبارها وطنًا آمنًا لكل يهود العالم، وأن هذه الصورة مهمة جدًا لإسرائيل لاستدامة قدرتها على استقطاب عدد أكبر من اليهود، خصوصا الذين في دول العالم الأول.
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة إشكالية للخليج، أيًا كانت نتائجها ومقدماتها
أضف إلى ذلك أن "طوفان الأقصى" هي المعركة الهجومية الأولى على أراض فلسطينية محتلة منذ عام 1967، وذلك يعبّر عن هزيمة استراتيجية عسكريًا واستخباراتيًا وسياسيًا، وانعكاس أكيد لانهيار معادلة الردع والتفوّق الإسرائيلي في المنطقة، ما يجعل عددًا أكبر من الأعداء يتجرأون على إسرائيل، وكذلك يثبّط المطبّعين الجدد والمستقبليين عن حماسهم تجاه إسرائيل باعتبارها مخلصا من الخطر الإيراني.
دوافع محور الممانعة
يتعامل محور المقاومة مع هذه الحرب بمنتهى الجدّ، إذ إن سقوط حلقة غزّة، في ظل تآكل شرعية أنظمته وتنظيماته، بفعل الأزمات الاقتصادية والسياسية الطاحنة، التي يواجهها بلاد المحور جميعًا، قد يفرط عقد هذا المحور الذي كما يتّضح من اسمه، يستمد مشروعية وجوده من مقاومة إسرائيل والهيمنة الغربية. وإذا ما تخلى الحلف عن الجماعة الفلسطينية الوحيدة التي لا زالت ترفع السلاح، وسقطت، فإن هذه سيكون بمثابة هزيمة تأسيسية، ولن يكون هنالك مبرّر لوجوده.
كذلك فإن انهيار الاتفاق النووي، الذي أغلق الباب في وجه أي أفق سياسي واقتصادي لإيران، وكرس الانسحاب الأميركي منه من عزلة إيران الدولية، وعدم تبلور محاولات التقارب السعودي الإيراني برعاية الصين، يدفعها نحو محاولة إخراج نفسها من هذا المأزق، وفرض نفسها على الإقليم والساحة الدولية من جديد. وأيضًا يمثل التطبيع العربي المتزايد، واستدعاء إسرائيل ساحة الصراع الخليجي الإيراني، تهديدًا جدّيًا للمشروع الإيراني المضادّ في المنطقة.
كثيرون بدأوا ينظرون إلى إسرائيل على أنها "وحش من غبار"، وليست قادرة على حماية نفسها، عوضًا عن حماية حلفائها
إشكالية الحرب بالنسبة للمقاومة اللبنانية: حزب الله الذي يعتبره لبنانيون وسوريون كثيرون قوة متسلطة عليهم، بينما هو في المقابل يروّج نفسه قوة مقاومة لاحتلال الإسرائيلي أراضي لبنانية، ليجد نفسه في ورطة حقيقية، إذا لم يكن مستعدًا للقتال ضد إسرائيل، خصوصا إذا ما تعرّضت المقاومة الفلسطينية إلى ضربات قاصمة، في الوقت الذي هو مستعد فيه للقتال المباشر إلى جانب النظام السوري، وقوات الحشد الشعبي في العراق، وكذلك تدريب وتسليح جماعة أنصار الله في اليمن.
دوافع الغرب
دوافع الغرب، أو أميركا على وجه الخصوص، هي أبسط من أن تحتاج شرحًا، فإسرائيل هي الحليفة الأولى لأميركا من خارج الناتو، وهي ذراعها ووكيلها في المنطقة، وهزيمتها هزيمة مباشرة للهيمنة الأميركية في المنطقة. ولا مبالغة في القول إن هزيمة إسرائيل في أي حرب مفتوحة هي بمثابة إعلان عالم متعدّد الأقطاب، وانهيار حقبة العالم ذي القطب الواحد. لذا تعزّز الولايات المتحدة بدعمها إسرائيل من قدرتها على الردع العالمي، خصوصا وأنه قد تآكل قليلًا بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد، ونجاح الروس في تأمين مناطق سيطرتهم في أوكرانيا. ولا يشمل الردع العالمي روسيا فحسب، وإنما الصين أيضًا التي لا تنفكّ أميركا تحذّرها من غزو تايوان، وأنه إن فشلت أميركا في تدعيم إسرائيل في مواجهة خصومها، فذلك قد يكون بمثابة إذن للصين بضمّ تايوان، وإسقاط حكومة هونغ كونغ الذاتية.
دوافع روسيا والصين
تغيرت اهتمامات قوتين عظميين، كالصين وروسيا، إلى حد ما، خصوصا روسيا التي أثبتت الحرب الأوكرانية أن إيران حليف موثوق يمكن الاعتماد عليه، وأنه لا طائل من وراء إسرائيل التي، وإن حاولت أن تتخذ من الحياد موقفًا تجاه العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إلا أنها انصاعت للضغوط الغربية بسهولة. وعلى قاعدة أن عدو عدوي صديقي، ربما تجد الصين نفسها مستفيدة من زعزعة معادلة الردع الأميركي العالمي من خلال إسرائيل، وأن تتّخذ موقفًا إن لم يكن داعمًا لمحور المقاومة، فعلى الأقل يمكن وصفه بالحياد المتخاذل عن إسرائيل. وقد تمثل هذه المعركة مدى الشقاق بين الشرق والغرب، على خلفية الأزمة الأوكرانية.
الخليج العربي
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة إشكالية للخليج، أيًا كانت نتائجها ومقدماتها، فعملية التطبيع التي كانت تجري على قدم وساق حريٌ بها أن تتريث قليلًا، فليس من الممكن لدول هي على الأقل في مستوى الخطاب متبنّية القضية الفلسطينية أن تشرع في مزيد من التطبيع في الوقت الذي يقتل فيه الفلسطيني في كل مكان، سيكون ذلك إحراجًا شديدًا لهذه الأنظمة أمام الرأي العام العربي، وقد لا تحمد عقباه. في الوقت نفسه، إسرائيل ما قبل "7 أكتوبر" ليست هي إسرائيل ما بعده، فكثيرون بدأوا ينظرون إليها على أنها "وحش من غبار"، وليست قادرة على حماية نفسها، عوضًا عن حماية حلفائها. في المقابل، انتصار إيران، سواء كانت طرفًا مباشرًا في الحرب أم لا، سيعزّز من المخاوف الخليجية تجاه إيران، وسيُضعف ميزان القوة أكثر.
مصر والأردن
يكافح الأردن بالفعل للحفاظ على توازن تركيبته السكانية، في بلدٍ، تفيد بعض التقديرات، بأن عدد مواطنيه من أصل فلسطيني نحو النصف، لذا فإنه لو جرت تصفية الوجود الفلسطيني في غزّة، أو صُدر إلى مصر، فإن تصفية الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، وتصديره إلى الأردن سيكون مسألة وقت. الأمر الذي لا يهدّد فقط بموجة غضب عارمة في بلد على المستوى الشعبي من أكثر الشعوب المناصرة للقضية الفلسطينية، وإنما يهدّد أيضا نظام الحكم في هذا البلد.
وإذا كان النظام المصري قد اتخذ في بدايته خطواتٍ يسهل فهمها أنها تمهيد لمخطط توطين الفلسطينيين في سيناء، كتهجير المناطق السكنية المحاذية للحدود مع غزّة، إلا أنه من منطلق براغماتي بحت، يمكننا القول إن النظام المصري يرفض، بشكل قاطع، سيناريو تبادل الأراضي أو توطين الغزيين، ذلك أن سيناء الغنية بالموارد، هي منطقة شبه خالية من السكان، وإذا هجر سكان غزة إليها، في ظل أنها أيضًا منطقة منزوعة السلاح، فستصبح الغالبية الفلسطينية الجديدة، بخبراتها القتالية العالية، مهدّدًا لسلامة الأراضي المصرية ووحدتها، ناهيك عن أن القبول بهذه التسوية يهدّد بقاء النظام نفسه، نظرًا إلى أن خطوة كهذه في الوعي الجمعي المصري بمثابة خيانة عظمى.