عن المشروع الاستعماري وهو يدخل منحناه النهائي

آخر تحديث 2023-11-11 11:30:04 - المصدر: العربي الجديد

باهظةٌ على الروح والجسد متابعةُ هذا التسلسل الزمني لما يجري في القطاع المحاصَر.

الروح تتكوبس وتترمّد، وينهار حاملُها المادّي، بعد فترة، مهما تكظم وتُكابر. الروح هي عمودك الأوّل، والعمود الفقري، في المحلّ الثاني.

إنّ كل مهموم بالفنّ يعرف، حتى لو بلغ من العمر عتياً، أنّه إنصاتٌ دائم إلى الطفل الذي كانه، والطفل الذي يستمرّ في أن يكون عليه.

فكيف لهذا إن كان فلسطينياً، أن يتابع، دقيقةً تلو أُخرى، تفاصيل شهر بثلاثين يوماً من القيامات، لا "يوم قيامة" واحد؟

شهر، عنوانه الأبرز: سحق أمشاج الحياة بأجمعها، في العمران والإنسان، على سعة بلدٍ مذبوح، لا بلد لأهله سواه؟

لا كتابة، بلا منظور طفولي. لا كتابة، حتى لو كانت تعليقاً على حدث سياسي، هائل ومروّع، دون مَتْح من البئر الأُولى، والفطرة الأُولى، والقصة الأُولى، التي بدأت من قرن مضى، وبالتخصيص منذ ثورة البُراق، 1929، إلى يوم فجيعة الناس هذا.

لقد دخل المشروع الاستعماري الاستيطاني الغربي (العرقي والقومي) في فلسطين، مُنحناه النهائي، عبر هذه المحرقة الكبرى: التدمير المتسارع لآخر بقايا حياتنا الأصلية، على ترابنا، ولآخر أنفاسنا، نحن أصحاب البلاد الأصلاء والأصليّون والوحيدون.

خلطةٌ من تسييس اللاهوت المسيحاني ودمجه بأطماع الاقتصاد

دخلها بقيادة رأس الشرّ في العالم، والهدف، قبل محو فلسطين وخلاله وبعده، ليس إلّا السيطرة على الزوايا الأربع لكوكب الأرض وكلّ من يعيش عليه.

في السياق، قال البرتغالي، وهو يستدعي الصوت الصارخ في البرّيّة، إن ما جرى، لم يأت من فراغ. فطالبته المومس الأكثر حديثاً عن الشرف، أن يستقيل، بعدما "أظهر درجة مدهشة من الفساد الأخلاقي". وليس بعيداً عليها والله اتهام الرجل بالأسطوانة المتهالكة: "معاداة الساميّة".

يا لها من مهزلة تُضاف إلى مهازل أزمنة الإمبرياليّين، وكلُّها من ذوات اللون الأسود.

أمس، دُعيت إلى الحديث في ندوة، يقيمها ماركسيون (مقيمون بدورهم تحت سقف الرأسمال)، فاشترطت أن نبدأ القصّة من حرف الألف، كي لا يكون كلُّ شيء خارج سياقه التاريخي، فتضعضع المتعاطفون معنا (من منطلق "إنساني"، لا سياسي)، وكان الرفض.

لا مكان هنا والآن، ولا من قبل ولا من بعد، لإشاعة الرماد عن طريق الاجتزاء، سواء في بروكسل أو أنتويرب (والأخيرة معقل المال واللوبيّ إياه).

إمّا أن تقول كلّ ما عندك، وإمّا بلاها تلك الندوات ذات الجمهور القليل، معدوم الأثر.

لقد أصبح غيتو غزّة، والإجهاز على عمرانه وإنسانه، فرصة لليانكي، كي يثبّت هيمنته على المنطقة كلّها لعقود قادمة.

ولعل مردّ هذه الشراسة غير المسبوقة في التوحّش والتنكيل، أنّه قلقٌ على مكانته الأُولى، كقطب وحيد، مع بزوغ أقطاب أُخرى.

إنّنا نشهد اليوم خلطة ليست عجيبة على تاريخهم، من تسييس اللاهوت المسيحاني ودمجه مع أطماع الاقتصاد، لإنتاج أحزمة النار والدمار.

ذلك أن ما تحت تراب غزّة سيبيض لهم ذهباً في المستقبل.

لقد تمّ اكتشاف احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، وها هُم، حتى أثناء الحرب، يمنحون تراخيص التنقيب لستّ من شركات مختلفة.

إنّ هذه الخطّة تنبثق مباشرةً من قواعد لعبة الرأسمال الكارثي، وتصل مباشرة في منتصف أزمة الطاقة التي تفاقمت بسبب حرب أوكرانيا. ودعونا لا ننسى: عندما يتعلّق الأمر بالجغرافيا السياسية، لا توجَد مصادفات.

هناك اليوم مجموعة واسعة من الحوافز، اقتصادياً ولوجستياً، لأميركا وللكيان كي يُفرّغا القطاع من سكّانه، ثم يأتي الدور على باقي فلسطين التاريخية، توطئة لبناء قناة بديلة عن قناة السويس، بهدف السيطرة على التجارة البحرية والحصول على مزايا عسكرية كبرى.

ألا يمرّ الطريق المفضَّل للقناة عبر القطاع؟ لقد كانوا يخطّطون لهذا المشروع منذ عقود. والآن لديهم، كما يتوهمون، "غطاء أخلاقي ضخم". ويبدو هذا وكأنّه تكرار لغزو العراق، حيث عادةً ما ينتظر البيض أيّ "لاعب مارق" (بمنظورهم)، ليفعل شيئاً، فيكون "المحو" وقتَها بمثابة تبرير لردّ فعلِهم المتطرّف.

نُدرك أنّ كلّ حرب خاضوها كانت من أجل الموارد أو النفوذ

نحن نعرف أنه بمجرّد رؤية الحقائق، يمكن للغرب إنكارها.

نعرف أنّنا كمظلومين، لمّا ننظر إلى تاريخ العالَم (والغربي منه بخاصةٍ)، ندرك بالحواس، دون إعمال تفكير، أنّ كل حرب خاضوها كانت من أجل الموارد أو النفوذ، أو كليهما.

وحتى عندما يكون هناك دافع بشري، فإن وجود الموارد والوقود الأحفوري هو دائماً ما يدفع الغرب نحو العنف. وإلّا فلماذا ينفق قادته ترليونات الدولارات على الحروب، دون أن ينفقوا أي احتياجات أُخرى تتعلّق بحقوق الإنسان، مثل طي صفحة "الجوع"، مثلاً؟

ليكُن أنّ الإنفاق العسكري الأميركي لعام 2019 يعادل ميزانية العالم العسكرية بأكلمها.

وليكُن أنّ الحرب عمل مروّع، يقوم به اليانكي مع التابع الأوروبي، ليبثّا الخوف في الدول الضعيفة، ثم يبيعونها الأمن المفترض، مقابل سيادتها وموارد الطبيعة.

ليكُن: يجب أن يتمّ وضع حدّ لهذا. إنّ كوكبنا بحاجة إلى عالم متعدّد الأقطاب لتحقيق التوازن الجيوسياسي بين البلدان. وحده السلام والتعايش واحترام سيادة الدول وتقرير مصير الأمم والأخوّة بين الشعوب، يمكن أن يضع حدّاً للحرب الدائرة في العقل الإمبراطوري.

وليكُن. وبعد كلّ ما سبق وما سيحلّ، دعونا نضع جانباً تشاؤم العقل الداعي إلى الخوف من واشنطن (مصنع الحرب المتسلسل)، واللجوء إلى تفاؤل الإرادة.

فوالله، ليس الآن سوى سيزيف، على أمل أن يخرج من سياق أسطورته، وينزل إلى نجيع غزّة الفائض، كي يطاول النجاح، لو مرّة.

إن لحمنا ملكنا، وسنحاول زحزحة السكين عن الوريد، لئلا ينفتح باب التركيز الوحشي لسلطة الرساميل، فنُبتَلع وتُبتلع معنا دولُ الإقليم الشقيّ.

ليكُن.. فعندما ينقشع الغبار عن الفظائع التي ارتُكبت ضدّ المدنيّين العزل، سيغدو من الجليّ أنّ سكّان هذا الإقليم لم يكونوا بمستوى منع التطهير العرقي على أساس ديني وقومي، وفشلوا تماماً في واجبهم الأخلاقي المتمثّل في تلبية حماية الضعفاء، ومحاسبة المسؤولين. وهذا ما حدث مع الموجات المتعاقبة من جرائم القتل والاضطهاد ضدّنا طوال 76 عاماً.


* شاعر فلسطيني مُقيم في بلجيكا