لم تعد تغريني رائحة البن التي تفوح من دهاليز البيت لتوقظني كلّ صباح، تنتشلني من دفء السرير إلى صقيع صحيفة الوطن. ذلك أنّ الوطن قد اشرأب حجمه بعد أن كان ممتداً من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر. أصبح أرضًا تحت حصار غاشم، مساحته الإجمالية ثلاثمائة وخمسة وستون كيلومتراً مربعاً، يقف وحيداً أمام أساطيل الطغاة الظالمين. وطني ثلاثة حروف ورصيد لا متناهٍ من الكرامة والحرية. وطني حلم يزورني كلّ ليلة، هو سواعد متراحمة، وحماة حق أشدّاء على العدو الغاصب، رحماء بينهم.
باتت أصوات العصافير المغرّدة مصدر خوف ملجم، إذ يتصوّر ذهني أنّها طائرات دون طيّار تتربّص بقهقهة الأطفال، مآذن المساجد، وأجراس الكنائس. بتّ أنقّب عن الموت في أشياء كثيرة، أصاحب الأشباح لعلّني أطلع على أسرار الشهداء أو أجد أجوبتي. ها هي العصافير تعود لتجالس قلقي المرضي، كما لو أنّها تنوي مساكنة صرخات الأطفال الأخيرة التي باتت تقطن في ذهني دون استئذان. خبز الغذاء ملطّخ بدم أراقه صمتنا المخزي وتواطؤ ولاة أمور متصهينين، ظنّاً منهم أنّ السكوت عن الحق يضمن لهم صمتنا الأبدي. حتى أضواء شوارعنا الكئيبة باتت تهدّد بانقطاع دائم، حداداً على نور قد اغتاله ظلام الاحتلال في شوارع غزة الأبية.
هناك سيل من الأفكار يقطن في ذهني المشغول. أفكر في هموم الغد قبل مجيئها، وأقلق لمشاكل اليوم قبل أفولها، وفي خضم كلّ هذا التخبّط الوجداني لست أجد راحتي إلا في صوت الهدوء الآسر. كأنّ عقلي يعلن هدنة، بل يتوب عن القلق المبالغ فيه، وعن خلقه أفكاراً تدميرية تكاد تغرقني في محيط اليأس الهادر الذي لا يتوقف له مد. حتى إنني لست أدري من أين يأتي هذا الهدوء الذي يُوحي لعقلي بالصمت القاتل، يجفّف نبع أفكاري وينتزع مني صفة الكاتبة التي لطالما كانت لصيقة بهويتي.
أصبح فؤادي المكلوم لا يستسيغ الكتابة لغيرهم، ويرفض قلمي أن يسيل حبره إلا نصرة لذكراهم الخالدة ودمائهم الطاهرة. كيف لا وهم من أبانوا عن شجاعة لا نظير لها في وجه ظلم وتآمر العالم بأسره ضدهم؟ هم من لقنوا "العالم الحر" درساً في الحرية، وأظهروا لنا مدى افتقارنا إلى هذه الحرية في بلداننا العربية، التي لا تزال بخنوعها لإرادة المستعمر، محتلة.
نحن، أموات لا صوت لنا ولا وزن لرأينا، وهم أحياء عند ربهم يرزقون
ها نحن نغرق في بديهيات الحياة من جديد، نعود إلى مشاغلنا التافهة وقلوبنا ما زالت معلّقة بهم، بصور خيانتنا الصريحة لعروبتنا ولإنسانيتنا، وبمشاهد قد صادق على مشروعيتها ولاة أمورنا بأفعال تناقض أقوالهم ومسرحياتهم السياسية. وفي خضم كلّ ما يجري توحي لنا الذاكرة بأنّ المشهد قد مرّ علينا من قبل يوم شاهدت أمّة بأكملها سقوط بغداد دون أن يتحرّك لها ساكن، وأننا اكتفينا بشيء من الرثاء والحزن، وأنّنا كنّا يومها قد دفنا العروبة ومشينا في موكب عزائها الأخير. وماذا عسانا اليوم نرثي بعد الذنب العظيم؟ ألسنا نرى أخيراً أنّ أوان الكفارة قد حان؟ هذه حرب وجودية، فماذا عسانا ننتظر؟
على كلّ حال، لن أطيل في حديثي الشعبوي هذا… همي أن أثأر للذاكرة التي أراد العدو اغتيالها، للأسماء والوجوه الطاهرة، وللحياة إذ تجسّدت في أرواح نقية. لأنّ للكتابة قدسية بقدر الحياة، أذكر هبة أبو ندى، كاتبة فلسطين وصاحبة رواية "الأكسجين ليس للموتى"، أذكر حبّها للوجود وإقبالها على العيش بكلّ سبله الممكنة. أذكر الدكتور همام محمود اللوح وتفانيه في أداء واجبه المهني ودفاعه المستميت عن أبناء شعبه ووطنه. أذكرهم جميعاً لكي لا أمنح العدو فرصة قتلهم مرّة ثانية. أذكر الشهداء منهم والنازحين، أذكر حماة الأرض منهم والمهجّرين، أذكرهم جميعاً وأدعوكم لمحاربة النسيان كما يدعوكم أنصار الحق إلى الكفاح.
هذا الوطن بات سفينة الناجين، يحمل على عاتقه أحرار الأمة ولا يتعامل إلا بعملة الكرامة على ندرتها في زمن التخاذل والجبن. أمّا نحن، فأموات لا صوت لنا ولا وزن لرأينا، وهم أحياء عند ربهم يرزقون.