فرنسا ومعركة الصوت الآخر في ظل الترهيب

آخر تحديث 2023-11-17 08:30:14 - المصدر: العربي الجديد

الحرب على غزة هي الحدث الرئيسي في فرنسا. مركز الاهتمام الأول بالنسبة للسلطات الرسمية، والأحزاب، ووسائل الإعلام، والرأي العام. وتبعاً للتطورات في الميدان، تتجه المواقف، والنقاشات، بين الوقوف في الوسط، وبين تأييد أحد طرفي المعركة، وسط مخاوف فعلية من انعكاسات تهدد بردود فعل محلية.

وتشكل الخصوصية الفرنسية علامة فارقة على الصعيد الدولي، وهي قائمة على وجود ثاني أكبر تجمع يهودي، بعد الولايات المتحدة، له نفوذه وتأثيره على المستويات السياسية، والاقتصادية، والثقافية. وهو منخرط بقوة في الدفاع عن إسرائيل منذ زمن بعيد، وأدى خلال الأسابيع الماضية دوراً واضحاً.

مقابل ذلك هناك جاليات عربية وإسلامية، يتجاوز تعدادها خمسة ملايين، وهي مؤيدة بقوة للقضية الفلسطينية. ورغم أنها محدودة التأثير على المستويين الإعلامي والاقتصادي، فإنها ذات تأثير على القرار السياسي، نتيجة لعوامل تاريخية وأخرى راهنة، لما تشكله من قوة ضغط وتوازن داخلي.

وشكلت مسألة استيراد النزاع إلى الأراضي الفرنسية عنواناً، تسترت خلفه أوساط رسمية وغير رسمية، من أجل ممارسة ضغوط وعمليات ترهيب لتحديد مدى الصوت الآخر، الذي وقف ضد الحرب الإسرائيلية على غزة.

وجرى منذ بداية الحرب تشديد الإجراءات الأمنية، ومنع التظاهرات التضامنية، ولم يتم السماح بها إلا بعد أن وجدت باريس نفسها غارقة في المبالغة في المخاوف الأمنية، في حين أن غيرها من عواصم أوروبية أخرى، ذات ظروف مشابهة مثل لندن، تجوبها تظاهرات بأكثر من نصف مليون شخص، من دون أن يحصل فيها ما يعكر صفو الأمن، طالما أن السلطات تتعامل مع الوضع بمهنية، ومن دون انحياز لطرف.


فرانسوا بورغا: يتم استغلال "معاداة السامية" لإدامة الانجراف الفاشي لليمين الإسرائيلي المتطرف

وساهمت أوساط سياسية من اليمين المتطرف، وأنصار إسرائيل، وبعض وسائل الإعلام، في تغذية المخاوف الأمنية في فرنسا. كما جرى توظيف حادثة مقتل مدرس فرنسي على يد شاب من أصل شيشاني، في إثارة الرأي العام ضد العرب والمهاجرين، مع أن نتائج التحقيق في ملابسات الجريمة لم تعلن بصورة رسمية.

ترهيب ورسوم على الجدران

في السياق ذاته، تولت وسائل إعلامية التركيز على الخلفيات السلبية لنشر صور نجمة داود على الجدران، في بعض أحياء باريس ومدن أخرى، واعتبرت ذلك من باب تهديد اليهود، في ظل تسارع الاعتداءات ضد أماكن العبادة الخاصة بهم.

وحسب أوساط مطلعة، فإن الاعتداءات ليست محصورة في اليهود، وتعرّض مسلمون وأماكن عبادة إسلامية لاعتداءات أيضاً، لكن وسائل الإعلام تجاهلتها، وأعطت أهمية خاصة لتلك التي استهدفت اليهود، ومنها هتافات نازية من قبل مراهقين في عربات مترو باريس.

واستدعت هذه الأفعال استنفاراً أمنياً، ومساءلة وزير الداخلية جيرالد دارمانان أمام البرلمان، من باب تطمين اليهود، وملاحقة مرتكبي الاعتداءات، ولم يتم النظر فيما تعرضت له أماكن العبادة الإسلامية.

وكان لافتاً أن تعلن وزارة الخارجية في بيان رسمي في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، أن باريس تمكنت من رصد عمليات نشر لصورة نجمة داود على وسائل التواصل الاجتماعي، تقوم بها شبكات روسية، بهدف التدخل في مجريات النقاش الدائر في فرنسا حول مسألة "معاداة السامية"، التي يجري نسبها بصورة تلقائية للعرب والمسلمين، من دون إجراء تحقيق في الأمر.

وسبق ذلك معلومات أمنية عن أن الادعاء العام في باريس يحقق فيما إذا كان شخص ما في الخارج قد وجّه أفراداً لرش الجدران برسوم "معادية للسامية".

وأفاد المكتب بأن اثنين من مولدوفا تم احتجازهما قالا إنهما حصلا على أموال من طرف ثالث، لرش طلاء برسم نجمة داود على جدران المباني. وهما رهن الاحتجاز حالياً في انتظار ترحيلهما. وذكر المحققون أن البيانات الموجودة على هواتفهم تشير إلى أنه رجل أعمال مولدوفي مؤيد لروسيا، وتم تحديد أنه موجود حالياً في روسيا.

وقال ممثلو الادعاء إن اثنين آخرين شاركا أيضاً في الرسوم على الجدران، لكن قيل إنهما غادرا فرنسا بالفعل، وأظهرت صور كاميرات المراقبة أن رجلاً آخر، لم يتم تحديد هويته بعد، التقط صوراً أثناء رش الطلاء.

ولم تغير هذه الوقائع المهمة من البروباغندا التي يبثها أنصار إسرائيل ضد العرب والمسلمين، مع أن بيان وزارة الخارجية الفرنسية واضح في تحديد الجهة التي تقوم بعمليات نشر نجمة دواد.

وجاء فيه أن "عملية التدخل الرقمي الروسية الجديدة هذه ضد فرنسا، تشهد على استمرار الإستراتيجية الانتهازية وغير المسؤولة، التي تهدف إلى استغلال الأزمات الدولية، من أجل نشر البلبلة والتسبب في التوترات في النقاش العام في فرنسا وأوروبا".


غاب ماكرون عن تظاهرة داعمة لإسرائيل ما عرّضه لهجوم واسع من أنصارها

وترى أوساط سياسية في فرنسا أن هدف روسيا من التدخل على هذا النحو هو إثارة الرأي العام ضد العرب والمسلمين، من أجل زيادة رصيد اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع، كون أحزاب اليمين المتطرف ذات صلات متينة بروسيا، ومن مصلحة موسكو أن تصل هذه الحركات إلى السلطة، وهو أمر يساعدها على تخفيف الضغوط الكبيرة عليها من جراء حربها على أوكرانيا.

استغلال "معاداة السامية"

في هذا السياق، برز على نحو خاص موقف المفكر والكاتب الفرنسي المتخصص في الشؤون الإسلامية فرانسوا بورغا، الذي اعتبر أنه يتم استغلال "معاداة السامية" دائماً لإدامة الانجراف الفاشي لليمين الإسرائيلي المتطرف، إلى حد الفحش، وتغذية أجواء الإسلاموفوبيا بشكل ضار، وبقدر ما هي "جريمة بغيضة بقدر ما تؤدي إلى نتائج عكسية".

ويبرز من خلال وسائل الإعلام أن هناك صوتاً واحداً لا يقبل الاختلاف معه أو توجيه أدنى انتقاد لإسرائيل، ويقود أنصار إسرائيل حرباً إعلامية وسياسية لا هوادة فيها، يوظفون فيها اليمين العنصري المتطرف بقوة، وذلك كي لا يبقوا وحدهم في صدارة المشهد.

ويظل المرشح الرئاسي السابق، زعيم حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون، في مرمى النيران من جهات متعددة، بسبب تضامن حزبه مع غزة، وتصدّره التظاهرات الرافضة للحرب، والمنددة بالسياسات الإسرائيلية.

جهة التصويب الأولى على ميلانشون هي الحكومة، من قبل مسؤوليها، بسبب انتقاداته للموقف الرسمي على لسان الرئيس إيمانويل ماكرون، أو من خلال رئيسة البرلمان يائيل براون بيفيه، التي هاجم ميلانشون زيارتها التضامنية لإسرائيل، وعدم صدور أي موقف من طرفها، لما تتعرض له غزة.

وجهة التصويب الثانية هي أنصار إسرائيل، الذين وصف بعضهم ميلانشون بأنه "متحدث رسمي باسم حماس"، وأنه يستغل الأزمة من أجل أغراض انتخابية، والحصول على أصوات الجاليات المغاربية ومنتقدي إسرائيل.

الجهة الثالثة هي اليمين العنصري المتطرف، الذي يعد ميلانشون المدافع الأساسي عن المهاجرين، ويضم فريقه البرلماني عدداً من النواب من أصول مهاجرة. وبالتالي، فإن الاشتباك الدائم مع هؤلاء كفيل بتعزيز مواقع اليمين في الأوساط المعادية للمهاجرين، والمتاثر بـ"الإسلاموفوبيا".

واختصرت تظاهرة يوم الأحد الماضي المشهد الفرنسي، كونها الأولى التي تشهد تضامناً مع إسرائيل بعد مرور شهر وأسبوع على بدء "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وقد وضعها الداعون والمنظمون لها تحت شعار "ضد معاداة السامية"، لمعرفتهم المسبقة بعدم إمكانية توفير شارع واسع متضامن مع إسرائيل، في ظل حربها على غزة، التي يصفها البعض بأنها "حرب إبادة".

ورافق الجدل هذه التظاهرة، وأثارت انقسامات وانتقادات من المعارضة والأوساط غير المؤيدة لإسرائيل، لأن من الداعين إليها، رئيسة البرلمان ورئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، ما يعني انحيازاً صريحاً لإسرائيل في النزاع وحرب غزة، خصوصاً أن الدعوة نصت على أن سبب "معاداة السامية" يعود إلى الأسلمة، وربط ذلك بالحرب على غزة.

التظاهرة تصدرتها رئيسة الحكومة إليزابيت بورن ورئيسا البرلمان ومجلس الشيوخ، وغاب عنها ماكرون، ما عرّضه لهجوم واسع من أنصار إسرائيل، الذين اعتبروا غيابه خطأ سياسياً، فيما حضر الرئيسان السابقان فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي.

وثمة عدم اتفاق بصدد الأطراف المشاركة، وبرزت معارضة صريحة لمشاركة اليمين العنصري، ذي الجذور النازية المعادية لليهود. ورغم أن هذا التيار بات في صدارة مناصري إسرائيل، هناك من يطالبه بالتبرؤ من ماضيه، على حد طلب المتحدث باسم الحكومة أوليفييه فيران، الذي قال إن أمام اليمين المتطرف أحد خيارين، إما أن يقطع جذوره مع المؤسسين، الذين يحملون الفكر النازي، أو مع الجمهورية.


انتقد دو فيلبان بشدة حكومة نتنياهو، التي قال إنها فشلت في 7 أكتوبر في تقدير سلبية توسيع الاستيطان

ورد على ذلك زعيم "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، جوردان بارديلا، الذي يعتبر أن حزبه لا صلة له بمعاداة السامية، في حين أن مؤسس التيار جان ماري لوبان، أدين ست مرات أمام المحاكم بهذه التهمة، ومنها إنكار غرف الغاز، التي اعتبرها "تفصيلاً تاريخياً".

التظاهرة اعتبرت مقياساً للتضامن مع اليهود، وجرى الربط بينها وبين التظاهرة ضد "داعش" عندما هاجمت صحيفة "شارلي إيبدو". وظهر خلال تظاهرة الأحد ساركوزي ليعلن عن يهوديته.

بروز دو فيلبان

وسط هذه الأحداث واليوميات الأمنية، اختفى النقاش السياسي كلياً، ومع ذلك هناك أصوات ذات صدى، فقد تركت تصريحات وزير الخارجية الأسبق دومينيك دو فيلبان أكبر تأثير في الرأي العام، كونه لا ينتمي إلى حزب سياسي معين، وخارج الاصطفافات، ومعروف بمواقفه الرافضة للحرب منذ خطابه الشهير في الأمم المتحدة عام 2003 ضد الحرب على العراق.

وانتقد دو فيلبان بشدة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي قال إنها فشلت في 7 أكتوبر في تقدير مدى الآثار السلبية التي تترتب على سياساتها القائمة على توسيع حركة الاستيطان.

مؤتمر التضامن الإنساني الذي نظمته الرئاسة الفرنسية، ظهر على أنه عبارة عن محاولة للبحث عن نقطة توازن في ظل الاهتزاز في الموقف والتناقضات الرسمية، بين طلب حماية المدنيين وتشكيل تحالف دولي ضد "حماس" على تعبير ماكرون، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وبين احترام القانون الدولي.

وكشفت صحيفة "لوموند" أن الخارجية الفرنسية منزعجة جداً من خيارات ماكرون في قضايا الشرق الأوسط. وقالت إن معظم القرارات والمواقف التي اتخذها جاءت من دون استشارة الوزارة، الأمر الذي تسبب في استياء واسع داخلها.

وأبرز الانتقادات جاءت من مسؤولين في إدارة شؤون شمال أفريقيا والشرق الأوسط المطلعة على قضايا المنطقة، وعلى تواصل دائم معها، إذ يطلق عليها اسم "شارع العرب" ضمن أوساط الوزارة. وقال دبلوماسي فرنسي للصحيفة "نحن نعارض تماماً ما يبدو وكأنه اصطفاف لصالح إسرائيل، لكننا لا نملك القدرة على إظهار ذلك".

واعتبر الدبلوماسي أن ما يحدث الآن ستكون له تداعيات خطيرة على صورة فرنسا وأمنها، وسيمتد لعشرات السنوات، وستخرج كل من روسيا وتركيا كأبرز الفائزين. كل شيء مرتبط بالمشكلة الكبيرة المتعلقة بوقف إطلاق النار، إذ "تمنح حالياً فرنسا دعماً معنوياً وسياسياً لنتنياهو في سلوكه خلال هذه الحرب".

ولم تمض سوى أيام حتى نشرت صحيفة "لوفيغارو" معلومات عن حركة احتجاج قام بها عدد من سفراء فرنسا في العالم العربي ضد مواقف ماكرون المنحازة لإسرائيل، وهذا أمر من شأنه أن يعدل الموقف الرسمي من أجل استعادة التوازن المفقود.