يصحّ القول في أخبار الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على غزّة، رغم بشاعتها، وقسوتها، وهمجيتها، إنها مكرّرة عن اليوم الأول التي أعلنت فيه حكومة نتنياهو عمليتها الانتقامية ضد أحداث عملية حركة حماس يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وحوّلتها من ردّة فعل إلى حرب إبادة، هدفها المعلن قتل من تستطيع قتلهم من الشعب الفلسطيني، تحت سقوف منازلهم، وفي المشافي، وبين جدران المدارس، وأمام منافذ الأفران وفي الأسواق، من شيوخ ونساء ورجال، وعلى وجه الخصوص، الأطفال، الذين تخشى دولة الاحتلال من طفولتهم "المستيقظة" على أعمالها الإجرامية بحقّ أرضهم وأهاليهم.
عادة ما ترصد الأخبار العاجلة أحداثاً جديدة في طبيعتها ونتائجها، لكن ما يحدُث في غزّة هو استمرار لحالة العدوان التي لم تتوقف على مدار الأسابيع السبعة الماضية. وبوتيرتها المتصاعدة على وقع الصمت الذي ساد العالم، وأخرس أصوات كثيرين من المنادين في الدول الغربية بحقوق الإنسان، يمكن تسميتها حرب الإبادة الحديثة، والتي أفرزت أنواعا من تبريرات الغرب المحدثة لجرائم الحروب، وذلك بتسمية ما تفعله إسرائيل من عملية اقتلاع للشعب الفلسطيني من أرضه، بل قتله، وتدمير مدنه ومسحها من الوجود، "عملية دفاع عن النفس" لا تطاول فاعلها العقوبات، ولا يجرّم باستخدامه كل أنواع أسلحته، حتى المحرّمة دولياً.
ليس خبراً عاجلاً استهداف إسرائيل مزيدا من المدارس، وقتل من فيها من اللاجئين والأطفال، وإحالة المباني إلى أرضٍ محروقة، فربما العاجل الذي في الخبر أسماء الضحايا الجدد، المضافة إلى السابقين، فحيث يمكن استخدام الخبر نفسه، والتفاصيل والأوصاف نفسها على كل عدوان يومي ومتكرّر، لنعلم أن الجديد في الأمر أسماء الضحايا وأجسادهم، وقوافل الأهالي المنكوبين، فكل مكانٍ يقصفه جيش الاحتلال يحمل الأهداف والنتائج نفسها، ما يعني أنه لا يوجد جديد أو مفاجئ في الخبر، وهو يؤكّد منهجية العدوان، وقدرته على تعطيل عمل المؤسّسات المحلية والعربية، والمنظّمات العالمية، وصولاً إلى مجلس الأمن، وتجميد صلاحياته وواجباته تجاه حماية حياة الفلسطينيين ووقف العدوان عليه.
ماتت أخبار العالم، لم تبق أولوية أوروبا الحرب التي تجاور حدودها
لا خبر يتصدّر اليوم على أخبار الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزّة، هكذا ماتت أخبار العالم، لم تبق أولوية أوروبا الحرب التي تجاور حدودها، لم تعد حرب الرئيس الروسي على أوكرانيا، أو جولة الرئيس الأوكراني تثير مشاعر الأميركيين، ولا أحاسيس الأوروبيين. ولم يعد من أهمية للدم السوري الذي يُراق في إدلب، وما حولها، ومشاهد اللاجئين في الخيام. ولم تعد على قائمة الاهتمام قضية آلاف المرّحلين قسراً على الطرقات. وكذلك لم تعُد الأولوية لوقف تدهور الوضع في اليمن والعراق ولبنان، فأولوية الغرب اليوم دعم حرب إسرائيل على الفلسطينيين، وتأمين مستلزماتها على الصّعد كافة، في خطوةٍ تعاكس جهود أي عمل إنساني لوقف الحرب، وتجنيب المدنيين مخاطرها الآنية واللاحقة، والتي تعني استعادة مشهد اضطهاد الشعوب على أساس مرجعيّتها القومية، أو الدينية، أو العرقية، مع اختلاف المسمّيات والأماكن والمواقع، ومع إمكانية توسّع تلك الحرب، وامتدادها أبعد من غزّة إلى ما بعد جوارها.
في هذا الوضع المهول، يمكن طرح مسألتين: الأولى، تحويل الحرب، أو جرائم القتل على بشاعتها، ودمويتها، إلى مجرّد مشهد متكرّر ليصبح أمراً عاديا ضمن يوميات الفلسطينيين. أي أن إسرائيل، ومعها داعموها، يقصدون هذا الفعل اليومي طريقةً لجعله حالة روتينية، يمكن التعايش معها، والتقليل من حساسيّتها، تماماً كالوجع المزمن، فهذا ما يحصل عندما يتزايد الألم، و"يتعضّى"، فإذا به يصبح جزءا من الجسم، أو عضوا فيه، أو جزءا من الحالة، بحسب علم النفس وسلوكيات البشر. المسألة الثانية، اللافتة للانتباه هنا، أن مشاهد القتل الإسرائيلية للفلسطينيين، في الأفران والمستشفيات والمدارس والجوامع وعلى الطرقات، ومشاهد حصار المناطق وتجويعها، وتدمير البيوت والممتلكات، وتحوّل الناس إلى لاجئين هائمين على وجوههم، سبق أن اعتاد العالم على مثلها في الصراع السوري، الذي استمر منذ عام 2011 ولا يزال يستهلك حياة السوريين، إذ تم تشريد أكثر من عشرة ملايين من السوريين، ووصل عدّاد الأمم المتحدة إلى أكثر من نصف مليون، ثم توقف العدّ، نعم لم يعُد عدد الضحايا خبرا عاجلا تلوّنه الفضائيات بالأحمر كدم ضحايانا.
في النكبتين الفلسطينية والسورية، ثمّة تخلّ من العالم عن قيمه الإنسانية
إذاً العالم، وضمنه العالم العربي، شهد مقتلتين في آن معا، ربما لا تختلف تفاصيلهما كثيراً، فإسرائيل التي تقصف المدارس في غزّة على مدار الأسابيع الماضية، تعلم ان هناك من سبقها إلى ذلك بتدمير نحو أربعة آلاف مدرسة بين تدمير كامل أو جزئي، كما حصل في سورية على سبيل المثال، فكما كان تصرّف المجتمع الدولي في المقتلة الأولى، فإنه لم ولن يتصرّف بأفضل من ذلك في المقتلة الثانية. وهذا بديهي، فالمجتمع الدولي الذي رأينا تسامحه مع ما فعله النظام السوري في شعبه، على الرغم من التأييد الكبير الذي حظيت به ثورة الشعب السوري، وعشرات القرارات الأممية التي دانت نظام الأسد ولم تنفّذ. وعلى هذا القياس، لا يمكن أن نتوقع من النظام الدولي أن يكون أقلّ محاباة أو تسامحاً مع إسرائيل "مدلّلة" الولايات المتحدة والغرب عموماً.
في المثالين، المؤلمين، أو النكبتين، ثمّة تخلّ من العالم عن قيمه الإنسانية، التي تتعلق باعتبار قيم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة، بمثابة قيم عالمية. وربما ثمّة التخلّي نفسه من النظام العربي الذي استعاد نظام الأسد إلى حضنه، من دون الالتفات إلى المأساة السورية، والعمل على إنهائها، ولعله لن يتأخّر لاحقاً من متابعة سيره الحثيث إلى التطبيع مع إسرائيل، وهو حتماً ليس خبرا عاجلا.