لم تكن الجماهير العربية، ولا حتى الفلسطينية منها، تنتظر في الحرب الإسرائيلية على غزّة قرارات جديّة من القمّة العربية الإسلامية، ولم يكن أحد يتوقع شيئاً كبيراً منها، ولا أحد ينتظر خطاباً عرمرمياً مؤثراً من الزعماء والقادة العرب، فضلاً عن الأفعال الواقعية. اختلف المشهد كثيراً، بل انقلب، مقارنةً بعقود سابقة، كانت الجماهير العربية تجتمع عند وسائل الإعلام التقليدية لتشاهد أو تستمع لخطابات جمال عبد الناصر وصدّام حسين، وأولئك الزعماء الذين كانوا يتوعدون إسرائيل بالويل والثبور، من دون أن تتاح للجماهير العربية مشاهدة ميادين المعركة، إلاّ بحدود قليلة.
أمّا اليوم، فإنّ الأطفال والكبار جميعاً ينتظرون "الملثّم" أبو عبيدة، أو حتى الشيخ حسن نصر الله، أو غيرهما من قيادات لحركات مسلّحة أصبحت تمثّل فاعلاً مهماً ورئيساً في الساحة العربية. ولم تعد الجماهير في عتمة إعلامية عن مجريات الميدان (تبشّرهم الإذاعات العربية بالنصر المؤزر ثم يصبحون على هزيمة!)، بل أصبحوا يشاهدون لحظة بلحظة مجريات المعارك وتطوّراتها والمجازر الصهيونية في غزّة، وتنقل لهم عمليات كتائب عز الدين القسّام، وكأنّ الإعلام المصوّر بات عنصراً مركزيا من عناصر الحرب.
صحيحٌ أنّ النتائج الاستراتيجية للحرب على غزة لم تظهر بعد، وسترتبط بدرجةٍ كبيرةٍ بما ستؤول إليه التطورات الميدانية، إلاّ أنّ من الواضح أنّ هنالك تداعيات ونتائج مبدئية ظهرت للعيان، منذ بداية الحرب الحالية، بما يعكس تحوّلاً كبيراً في بنية النظام أو اللانظام الإقليمي، ولعلّ أحد أهم الأبعاد يتمثّل في تراجع دور الدول الوطنية لصالح أنظمة أو جماعات هجينة، جزء منها في الحكم وجزء لديه مليشيات عسكرية، لا هي بالحكومات ولا هي بالتنظيمات البحتة، ويمكن توصيفها إن جاز التعبير بـSemi- State Actors، مثلما هي الحال حركة حماس وحزب الله والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، وهنالك أيضاً ما تزال الجماعات غير الحكومية (Non State Actors)، التي أصبحت فاعلاً رئيساً في الأمن الإقليمي، مثل جماعات مسلّحة عراقية، أو حتى جبهة النصرة التي تسيطر على إدلب.
ترتبط الديناميكيات الجديدة بمفهوم الحرب بالوكالة في المنطقة، وقد يُنظر إليها من زاوية أخرى من خلال ازدهار النزعات والتوجهات ما قبل الدولة
يعكس صعود هذا النوع من الفاعلين السياسيين، وتصدّره المشهد الإقليمي والمحلي في عدة دول (غزّة، سورية، العراق، اليمن)، انهياراً كاملاً في مفهوم الدولة الوطنية، وفشلاً جلياً في قدرتها على بناء مجتمعاتٍ متكاملة والقيام بإدماج سياسي. ترتبط مثل هذه الديناميكيات الجديدة، بدرجة كبيرة، بمفهوم الحرب بالوكالة في المنطقة، وقد يُنظر إليها من زاوية أخرى من خلال ازدهار النزعات والتوجهات ما قبل الدولة، مثل الطائفية والعرقية والدينية والاجتماعية، وهي الظاهرة الأكثر انتشاراً بعد احتلال العراق 2003، وانبثاق النفوذ الإيراني في المنطقة، الذي استثمر ما حدث بعد الربيع العربي 2011 ليتمدّد إلى مساحات أخرى (سورية، اليمن، لبنان)، من خلال العمل السياسي الحزبي والانتخابات، أو من خلال المليشيات المسلحة.
لا نستطيع الحكم، حتى اللحظة، فعلاً، ما إذا كان هذا النوع من الفاعلين السياسيين والعسكريين والأمنيين سيستمر في المرحلة المقبلة، أم أنّه سيتراجع وسيتم إعادة هيكلته ضمن إطار جديد لنظام إقليمي، وإنْ من الصعوبة بمكان تصوّر تراجع دور هذا النوع من الفواعل السياسيين على المدى القصير، إذ إنّه ارتبط بسياقاتٍ بنيويةٍ من انهيار المنظومات الوطنية العربية والنظام الإقليمي التقليدي، الذي كان يقوم على التنافس بين مراكز وحواضر عربية رئيسة، مثل مصر والعراق وسورية، على قيادة النظام الإقليمي، فيما تبدو هذه الدول الثلاث الكبرى غارقة في مشكلاتها الداخلية، مع تنوّع هذه المشكلات واختلافها، من فرقة طائفية وحروب أهلية وأزمات اقتصادية.
سيرتبط تطوّر الوضع الإقليمي بديناميكيات الحرب على غزّة والنتائج السياسية التالية لها؛ فهنالك محور الممانعة الذي ما يزال قوياً ومؤثراً في المنطقة
بدت عملية طوفان الأقصى كأنّها تدشين لعودة معسكر الممانعة محورا إقليميا مهمّا ورئيسا، لكن تردّد إيران وحزب الله في التدخل الكلي والمباشر في الحرب، حتى هذه اللحظة، قد ينعكس سلباً، لاحقاً، على حالة هذا المعسكر، ويعزّز الشكوك بين حركة حماس وجماهير الحركات الإسلامية السنية والمجموعات الإيرانية والشيعية المنتشرة في المنطقة. في المقابل، يلاحظ أنّ هنالك تراجعاً وانكماشاً في الدور التركي الإقليمي، خصوصا بعد الانتخابات التركية الرئاسية في مايو/ أيار الماضي، والتي كانت على درجة عالية من الصعوبة، ويتأرجح الموقف التركي بصورة جلية بين التقارب مع كل من روسيا وطهران والعلاقات الملتبسة المتوترة والمتحالفة، في الوقت نفسه، مع الغرب. ولا يبدو أنّ هنالك طموحاً تركياً شبيها بالطموح الإيراني في المنطقة العربية، ما يجعل الموقف التركي، وإن كان مؤثراً، لكنه ليس مباشراً، سوى في مناطق محاذية لتركيا بصورة خاصة شمال سورية.
سيرتبط تطوّر الوضع الإقليمي بديناميكيات الحرب على غزّة والنتائج السياسية التالية لها؛ فهنالك محور الممانعة الذي ما يزال قوياً ومؤثراً في المنطقة. أما محور الاعتدال العربي فيعيش حالة من الارتباك والتردّد والتفكك، تحت وطأة الخلافات الداخلية، وهي غير معلنة عادة، بين الإمارات والسعودية، والأردن والسعودية والإمارات، بشأن الموقف من الحرب على غزّة، والعلاقات المصرية السعودية الإماراتية المتذبذبة. ولعلّ السؤال المفترض لمرحلة ما بعد غزّة حماس، على وجه الافتراض في حال نجحت المخطّطات الصهيونية والأميركية، فما هو التصوّر الأميركي للمرحلة المقبلة، وما المقصود الإسرائيلي بالقول إنّ هذه الحرب ستغيّر وجه الشرق الأوسط، هل سيجري إطلاق عملية سياسية سلمية، تعيد إنتاج صفقة القرن، أم هنالك بحث في الحلول الإقليمية، وما مآل التطبيع العربي- الإسرائيلي، هل سينهض هذا المسار ليشكل حلفاً أو معسكراً في مواجهة الممانعة- إيران؛ أم نحن أمام نكبة جديدة للفلسطينيين؟!
ديناميكية الراديكالية التي ستجتاح المنطقة والموجة الجديدة سيقودها جيل من الشباب المحبط الغاضب المحتقن بسبب ما شاهده في غزّة
في ضوء ذلك كلّه، علينا ألا ننسى ديناميكيات أخرى مهمة في المنطقة؛ الأولى ديناميكية اللجوء والنزوح والتهجير، فهناك اليوم ملايين المهجّرين، ما هو مصير معسكرات ومخيمات اللجوء والأجيال الجديدة التي ولدت وتربّت في هذه الظروف الاستثنائية، ونتحدث هنا عن مئات الآلاف إن لم يكن ملايين البشر، في سورية واليمن وغزّة، وكذلك تركة تنظيم داعش التي ترفض الدول الاعتراف بها وترحّلها كمشكلة كبيرة وخطيرة إلى المراحل المقبلة.
كما أنّ ديناميكية الراديكالية التي ستجتاح المنطقة والموجة الجديدة التي سيقودها جيل من الشباب المحبط الغاضب المحتقن بسبب ما شاهده في غزّة، ونتيجة للانهيار الرسمي العربي. ولم يكن تقرير السفارة الأميركية في عمّان (تمّ تسريبه) بعيداً عن الواقع، عندما قال إنّ الولايات المتحدة خسرت جيلاً كاملاً في منطقة الشرق الأوسط، بسبب موقفها المؤيد للحرب على غزّة.
هذه نتائج أولية ورئيسية، إذا استبعدنا السيناريو الأخطر الآخر المتمثل في الحرب الإقليمية. وهنا نفتح الباب على سيناريوهات وديناميكيات عديدة، منها ما يتعلق بالحرب بالوكالة من خلال الجماعات العراقية في العراق وسورية، وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، وسيناريو ضرب إيران ودخولها مباشرة في الحرب. عند ذلك، ستنفتح الاحتمالات والديناميكيات إلى سيناريوهات أخرى عديدة، منها احتمالية انتقال الحرب بالوكالة إلى المواجهة غير المباشرة بين روسيا والصين من جهة والغرب من جهةٍ أخرى، وسيناريو صدام الحضارات، وتأجج المواجهات في المنطقة ومختلف دول العالم..
في المجمل، من البديهيّات الرئيسية القول إنّ الشرق الأوسط بعد 7 أكتوبر وطوفان الأقصى لن يكون كما كان سابقاً، سواء أخذنا السيناريو الأدنى في التحوّلات الديناميكية أو الأعلى، فنحن أمام متغيّرات هائلة، منظورة ومباشرة وغير مباشرة.