عقد من الزمن مَرَّ على إجراء أخر انتخابات لمجالس المحافظات في العراق، وبضع سنوات على حلّها، ما أدى إلى تعزيز نفوذ المحافظين وفتح المجال أمامهم لرعاية مصالحهم الخاصة على حساب خدمة المواطنين، فضلًا عن تعزيز نفوذ بعض القِوَى المكوّنة للطبقة السياسية التي تقود العملية السياسية منذ عام 2003. ما يعني أنّ غياب الدور الرقابي على عمل المحافظين أدى إلى استحداث الكثير من أبواب الفساد، وأضحت أدراج هيئة النزاهة ممتلئة بملفات الفساد ذات الصلة بهذه المجالس.
وهكذا، انطبعت صورة "مجالس المحافظات بؤرة فساد" في أذهان المواطنين، وباتت انتخابات هذه المجالس في نظرهم تأسيسًا لحلقة فساد جديدة ليس إلّا.
ويستعدّ العراقيون اليوم لخوض انتخابات مجالس المحافظات في 18 ديسمبر/ كانون الأوّل المقبل، وسط صراع حاد بين القِوَى السياسية القابضة على العملية السياسية منذ عام 2003، ذلك أنّ التحدّي كبير أمام القوى السياسية الناشئة، ومن المستبعد أن تكون هذه القوى قادرة على المنافسة بقوة؛ فالقانون الانتخابي وفق صيغة "سانت ليغو" يعزّز هيمنة القوى السياسية التقليدية.
ومن المفارقات، أنّه أمام الفشل الذريع لمجالس المحافظات في السنوات السابقة، ومسلمة أنّ الانتخابات هي ميدان الصراع الوحيد من أجل إحداث التغيير المنشود بالوسائل الديمقراطية، تأتي الدعوة من قبل قِوَى تقليدية وناشئة لمقاطعة العملية الانتخابية، وبدل أن يكون الانتخاب واجبًا وطنيًا أضحت المقاطعة بنظرهم هي الواجب الوطني.
إنّ صناديق الاقتراع هي السبيل المثالي والوحيد لإحداث التغيير ديمقراطياً، ومساهمة المواطن بتصحيح المسار السياسي
وخلاصة آراء الداعين للمقاطعة، بكافة أطيافهم، تتمثّل عند شريحة منهم في عدم إضفاء الشرعية على القِوَى السياسية التي ستفوز بنتيجة الانتخابات، وتتمثل عند شريحة أخرى في الشعور باليأس من الإصلاح والتغيير؛ إذ إنّ الوجوه هي نفسها، والنتيجة محسومة سلفًا، وأصحاب الكفاءة لا حظّ لهم، هذا فضلًا على أنه إذا ما نجح صاحب الكفاءة، فإنه سيّصاب بعدوى الفساد من البيئة المحيطة.
وإن كان قرار المقاطعة سيؤدي إلى انخفاض نسبة المشاركة، فإنّه في نفس الوقت سيؤدي أيضا إلى فوز بعض القِوَى السياسية التقليدية بالمزيد من المقاعد في مجالس المحافظات. ثم إنّ مقاطعة الانتخابات لن تؤدي قطعًا إلى تعطيل العملية السياسية، فالقانون الانتخابي لا يحدّد نسبة مشاركة معينة يُبنى عليها للطعن بنتيجة الانتخابات، وهي في نفس الوقت قطعًا ستؤدي إلى زيادة حالة "اللااستقرار" السائدة في البلاد.
لقد أثبتت التجربة منذ عام 2003 ولغاية الآن، أنّ مختلف سبل وآليات المقاطعة قد باءت بالفشل لناحية إحداث أيّ تغيير يذكر في الحياة السياسية العامة. ومن البديهي أنّ انتخابات مجالس المحافظات التي نحن بصددها اليوم هي إطار تأسيسي للانتخابات النيابية القادمة، لذلك فإنّ المقاطعة هي "جريمة" بحق الوطن بكلّ ما للكلمة من معنى.
إنّ صناديق الاقتراع هي السبيل المثالي والوحيد لإحداث التغيير ديمقراطيًا، ومساهمة المواطن بتصحيح المسار السياسي، فالقرار أولا وأخيرا بيده، فلتكن قوة بالقرار لاستقرار العراق.