ينحرف الرأي العام الفرنسي، ومعه مواقف النخب الفرنسية، بشكل متسارع إلى التصلّب المريب في إنكار الحقّ في المقاومة واعتبار ما يجري في قطاع غزّة، بكل فظاعاته، اعتداءات إرهابية تشنّها حركة حماس على إسرائيل، فيما يشبه كراهية العرب والمسلمين عامة. لم يعد الأمر مجرّد حالة استقطاب تواجه فيه أقلية مؤمنة بحقوق الشعوب في مقاومة المحتل مقابل أغلبيةٍ لا ترى المقاومة الفلسطينية في غير تصنيف الإرهاب. فاق الأمر مجرّد موازين قوى مختلة بين مخيمين، بل يكاد موقفٌ واحد ينفرد بالحضور في المشهد الإعلامي، وحتى السياسي، من خلال مؤسسات الدولة الفرنسية، على غرار مجلس الشيوخ والبرلمان ومؤسّسة رئاسة الجمهورية. تتضافر كل هذه المواقف من أجل مساندة إسرائيل واعتبار الحرب الدائرة، وهي تطحن عشرات آلاف الأبرياء، حرباً على الإرهاب.
لفرنسا مكانة خاصة في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر بالنسبة للعالمين العربي والإسلامي. كانت قد أطلت غازية على العالم العربي أواخر القرن الثامن عشر، ثم شنّت حملاتها الاستعمارية مبكّراً على بعض البلدان. توسّعت لاحقاً لتضم بلدان المغرب العربي وبعضاً من الشام. خرجت الشعوب من ذلك كله بخسائر عديدة، وبآلام عديدة في الذاكرة، ولا شك في أن تشكيل الذاكرة وإعادة صياغتها بشكل سوي لا يزال قائماً.
لاحقاً، شارك عشرات الآلاف من العرب والمسلمين في الحروب التي خاضتها فرنسا في جل معاركها التي خاضتها في الحربين العالميتين، بما فيها تلك المقاومة العنيدة التي خاضتها من أجل تحرّرها من النازية. دافع المغاربيون وغيرهم من مسلمي القارّة الأفريقية عن فرنسا، وماتوا دفاعاً عنها، وتحفظ كتب التاريخ مهارة الرماة السنغاليين وبسالة المغاربة والشجاعة التي تحلوا بها للتصدّي للألمان وحلفائهم في معركتي بير حكيم بليبيا والنورماندي وغيرهما.
حين اندلعت في 7 أكتوبر الماضي معركة غزة، سارعت فرنسا إلى إدانة المقاومة الفلسطينية، واعتبرت ما جرى اعتداء إرهابياً على إسرائيل
بعد موجات الاستقلال، لم تكُن فرنسا بعيدة عما يجري في العالم العربي، فكافأت العرب، للأسف، بكثير من الإهانة والإنكار، حين ساهمت في العدوان الثلاثي سنة 1956، وظلت مواقفها ضعيفة متذيّلة عادة للكيان الصهيوني. ربما ظلّ موقف وزير الخارجية الأسبق (رئيس الوزراء لاحقاً)، دومينيك دوفيلبان، حالة نادرة، حين رفض أن يمضي تابعاً للموقف الأميركي، وذهبت الولايات المتحدة إلى حربها ضد العراق من دون أي تغطية بمشروعية دولية.
حين اندلعت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي معركة غزة، سارعت فرنسا إلى إدانة المقاومة الفلسطينية، واعتبرت ما جرى اعتداء إرهابياً على إسرائيل. وكنّا نتصور الأمر مجرّد التزام بالقواعد الدبلوماسية والسياسية التي عادة ما تلتزم بها في المواقف الخارجية، وهي البلد العضو في الاتحاد الأوروبي الذي صنّف في عام 2005 حركة حماس منظمة إرهابية. وبحث آخرون عن أعذار منها أن بعض المختطفين (الأسرى لدى "حماس") يحملون الجنسية الفرنسية (مزدوجو الجنسية)، غير أن تمسّك فرنسا بموقفها العام رغم طول الحرب، وكل ما ارتكبته إسرائيل من فظاعات ترتقي إلى نعتها جرائم حرب، يؤكد أن الأمر يتجاوز تلك التفسيرات التي لا تصمد، فالأمر يتعلق حقيقة ببنية العقل السياسي الفرنسي الذي تشكّل منذ الخمسينيات، والذي ما زالت فيه صور كولونيالية راسخة في عمقه.
خفتت ردات الفعل في الأوساط الشعبية الفرنسية، وهو خفوتٌ لا يمكن أن يكون بعيداً عن مناخ الإسلاموفوبيا عموماً التي نفخ فيها اليمين
عاشت فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر (1898) على وقع قضية درايفوس، الفرنسي الذي تدرّج مراتب عليا في الجيش الفرنسي، حتى أدرك رتبة الجنرال، غير أن أصوله اليهودية كانت وراء جملة من الاتهامات، وصلت إلى حد الخيانة. وكانت هذه الحادثة، كما يقول مؤرّخو الأفكار، محطّة حاسمة في تاريخ فرنسا الحديث، وهي التي أتاحت تشكّل الرأي العام بالمعنى الحديث للمثقف الفرنسي. كان إميل زولا، في رسالته "إني أدين" التي نشرها في صحيفةٍ ذائعة الصيت آنذاك (أورور) قد شكّل بمبادرته هذه منعطفاً حاسماً في تاريخ المواقف الفرنسية تجاه القضايا ذات العلاقة باليهود عموماً، تعمقت لاحقاً بما نال اليهود في فرنسا في أثناء الحرب العالمية الثانية من انتهاكات خطيرة.
وقد شكلت هذه العوامل نواة العقيدة السياسة الفرنسية تجاه جل المسائل التي ستجري في ما يشبه "النموذج" الراسخ. وقد منع اللوبي اليهودي في فرنسا الذي بات متحكّماً في المشهد الإعلامي، بما يملك من نفوذ مالي وفكري على جل النخب، أي مواقف منصفة للفلسطينيين. ونال الذين غرّدوا خارج السرب، وتمكّنوا من اختراق دوّامة الصمت هذه المرّة، وتحلوا بالشجاعة الأدبية الفائقة، نالهم الكثير من السحل الإلكتروني والحصار، بل طاول بعضهم الطرد من مواقع عملهم.
مقارنة مع الشارع البريطاني، خفتت ردات الفعل في الأوساط الشعبية الفرنسية، وهو خفوتٌ لا يمكن أن يكون بعيداً عن مناخ الإسلاموفوبيا عموماً التي نفخ فيها اليمين في غياب تام لمواقف نخب فكرية وسياسية كانت لها، إلى حد قريب، القدرة على التمييز والإنصاف. ويتفاخر الفرنسيون في هذه الأيام بأن بلدهم، مقارنة مع بريطانيا أو حتى الولايات المتحدة، لم يشهد حالة استقطاب في المواقف تجاه غزّة، فكأنّ ثمة ما يشبه الإجماع، فالجمهورية حصّنت أبناءها من الزيغ، والحال أن هذه الجمهورية ذاتها قد تحوّلت إلى تنّين يلتهم مبادئه قبل أبنائه.