الحديث المُسئم عن "حلّ الدولتين" منذ عقود مديدة، أُلهية وسلوى لفظيّة، مضيعة (أو إضاعة متعمّدة) للوقت. فلا "إسرائيل" بغالبية شعبها وقادتها قابلة لحلّ كهذا، ولا الولايات المتحدة جدّية في طرحه، وبالتالي فرضه على سائر أطراف النزاع، ولا إجماع فلسطينيّاً على القبول به والاكتفاء بأجزاء من أرض فلسطين التاريخيّة تقوم عليها "دولة فلسطينية" غير معلومة الجغرافيا والحدود والمساحة وكيفيّة وَصْل أجزائها.
يكثر تداول مصطلح "حلّ الدولتين" على نحوٍ ممضّ مُطبق على الصدور، فما المقصود به؟ وأيّ صيغة ممكنة لتطبيقه؟ ولِمَ يرفضه الفلسطينيون والإسرائيليون معاً؟... فور انتهاء حرب (أو "نكسة") 1967 التي دامت ستة أيام، وهُزمت فيها القوات العربية المحاربة (مصر وسورية والأردن والعراق) أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي، بدأ الكلام في وسائل الإعلام، وبخاصة الغربية منها، عن "حلّ الدولتين" تسوية للنزاع العربي – الإسرائيلي في فلسطين، وفحواه تقسيم الأراضي الفلسطينية التاريخية قسمين، واحد لدولة الاحتلال التي أنشئت عام 1948، وثان لدولة فلسطين على أراضي حدود الرابع من يونيو̸ حزيران 1967، ما يعني انسحاب "إسرائيل" من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها بعد الحرب 67. وأوّل مطلقي هذا الحلّ، المزعوم والمفترض نظريّاً، هو المفكّر السياسي الأميركي والعالم الألسني نعوم تشومسكي، المناهض كيهوديّ للفكر الصهيونيّ، وللإمبريالية الأميركية على حدّ سواء. روّج هذه الفكرة في الجامعات الأميركية إثر هزيمة العرب في تلك الحرب، بيد أنّه ووجه بانتقادات حادّة، وحتى بتهديدات بالقتل، من أشخاص ينتمون إلى جماعات يهودية يمينية متطرّفة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، معبّرين عن سخطهم على تصريحاته التي عدّوها "معادية للساميّة"!
في أي حال، لم تكن فكرة تشومسكي جديدة أو مبتكرة، ولم تأتِ من عدم أو فراغ، فمنذ الاحتلال الصهيونيّ للأراضي الفلسطينية التاريخية صدرت مواقف دولية عديدة تنادي بحلّ للقضية الفلسطينية عن طريق "حلّ الدولتين"، ويعود بعضها إلى ما قبل 1948، مثل مقترح لجنة پيل عام 1937، ولجنة وودهيد عام 1938، وقرار الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة عام 1947 الذي يحمل الرقم 181، فضلاً عن القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن عام 1967، استناداً إلى مقترح تشومسكي الذي لقي آنذاك صدى واسعاً داخل أروقة الأمم المتحدة، وكحلّ وسطيّ يحلّ مكان القرارات السابقة التي رًفضت بمجملها. علماً أن القرار 242 اكتنفه غموض كبير، خصوصاً في فقرته الأولى المتصلة بانسحاب جيش الاحتلال من الأراضي الفلسطينية، ما دفع مندوبي بعض الدول، مثل الاتحاد السوفييتي والهند ونيجيريا، إلى التوضيح قبل التصويت بأن القرار يفهم منه انسحاب "إسرائيل" من جميع الأراضي التي احتلتها بعد حرب 67، خلافاً للنص باللغة الإنكليزية الذي تضمّن عبارة "انسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ احتُلّت في النزاع الأخير"، في حين أضيفت "أل" التعريف إلى كلمة "أراضٍ" في النصوص الأخرى باللغات الصينية والفرنسية والروسية والإسبانية، ما يعني انسحاب الاحتلال من كلّ الأراضي التي احتُلّت بعد حرب 67، على عكس الصيغة الإنكليزية التي لم تحدّد الأراضي التي ستنسحب منها "إسرائيل". وإلى ذلك، نصّ هذا القرار الأممي على احترام سيادة الدول في المنطقة وإنهاء حالة الحرب، كما تضمّن على نحو ضمنيّ اعترافاً بـ"دولة إسرائيل" متجاهلاً الإشارة إلى حلّ القضية الفلسطينية التي عدّها القرار مجرّد مشكلة "لاجئين"! من دون ذكر كلمة فلسطين أو عبارة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتحرير أراضيه، أو في الأقلّ العودة إلى تلك الأراضي. ثم كانت اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ بين منظمة التحرير و"إسرائيل") الكارثية عام 1993، وتلاها عام 2003 مشروع اللجنة الرباعية (روسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة) الذي رسم "خريطة طريق" لإقامة دولة فلسطينية مع حلول العام 2005، أي كان مفترضاً أن تقوم هذه الدولة الفلسطينية قبل 18 عاماً، وأن تُجمّد مذّاك عمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
بقاء الكلام الأميركي والأوروبي عن "حلّ الدولتين" حتى الساعة في الإطار اللفظيّ. علماً أنّ موت اتفاقية أوسلو يعني بعد 30 عاماً موت هذا الحل أيضاً
تتعدد العقبات الفعليّة، الواقعية التي تحول دون تحقّق "حلّ الدولتين" وبقاء الحديث بشأنه "حديث خرافةٍ يا أمّ عمرو"، بحسب القول الشعريّ العباسي ديك الجنّ الحمصي.
أولا: الإجماع الصهيوني، أو شبه الإجماع، يميناً ويساراً ووسطاً، تطرّفاً واعتدالاً، على استحالة التفريط بـ"أرض الميعاد" أو "إرتس يسرائيل". فاستناداً إلى الخرافة الدينية الراسخة، لا بدّ من أن تتوسع "إسرائيل" لتبلغ "حدودها التاريخية" التي ورد ذكرها في التوراة (من النيل إلى الفرات)، وأن تكون دولة يهودية خالصة يحقق فيها اليهودي ذاته وهويته.
ثانيا، لا بدّ من التخلّص من وجود الشعب الفلسطينيّ الذي يُعدّ وفق التصوّر الصهيوني "أمراً عرضيّاً زائلاً".
ثالثا، الاستيطان هو حجر الزاوية وأمر جوهريّ في الإجماع الصهيوني، وأيّ كلام عن تفكيك المستوطنات يضرب صميم العقيدة الصهيونية الإحلاليّة.
رابعا، القدس هي العاصمة الموحّدة، الأزلية الأبدية للدولة الصهيونية، وليست على الإطلاق موضوعاً للمساومة، لا بغرب المدينة ولا بشرقها.
خامسا، التاريخ العبريّ، وفق العقيدة اليهودية، يكمن بمجمله في "يهودا والسامرة"، التسمية العبريّة للضفة الغربية، التي يجب أن تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، ويفتي الحاخامات بعدم جواز التنازل عن هذه الأرض شرعاً. مع الإشارة إلى أن عدد سكّان المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية يزيد على ثلاثة أرباع المليون مستوطن، معظمهم من المتديّنين المتشدّدين، العدوانيين وذوي الرؤوس اليابسة.
مجرّد الاعتراف بحقّ الشعب الفلسطينيّ في قيام دولة فلسطينية ينسف الرواية التوراتية حول "أرض الميعاد" من أساسها
سادسا، بقاء الكلام الأميركي والأوروبي عن "حلّ الدولتين" حتى الساعة في الإطار اللفظيّ. علماً أنّ موت اتفاقية أوسلو يعني بعد 30 عاماً موت هذا الحل أيضاً.
سابعا، لا يمكن أن تتخلّى "إسرائيل" عن المياه السطحية الفلسطينية، مثل مياه الأردن ومياه البحر الميت، فضلاً عن جزء كبير من المياه الجوفية الفلسطينية حيث يقوم نحو 70% من المستوطنات على حوض الخزّان الشرقي في الضفة الغربية.
ثامنا، استحالة الربط جغرافياً (لو افترضنا قيام مثل هذه "الدولة الفلسطينية") بين الضفة الغربية وقطاع غزّة.
تاسعا، قضية حق العودة، وهي عقدة جوهرية يسقط عندها أي مشروع "دولة فلسطينية" لا تملك لمّ شمل أبنائها، فالهاجس المؤرّق للمحتلّ الصهيوني كان وسيبقى التفوّق الديمغرافيّ الفلسطينيّ الذي يهدّد وجود المدعوّة "إسرائيل" التي تحسب نفسها صاحبة حقّ تاريخيّ يغطّي احتلالها الاستعماريّ الإحلاليّ العنصريّ لفلسطين التاريخية.
عاشرا، مجرّد الاعتراف بحقّ الشعب الفلسطينيّ في قيام دولة فلسطينية ينسف الرواية التوراتية حول "أرض الميعاد" من أساسها. وحتى لو تحوّل الفلسطينيون إلى ملائكة سلام، تبقى الأيددولوجيا الصهيونية سدّاً مانعاً أمام مجرّد التفكير بقبول نشوء دولة فلسطينية ملاصقة للدولة اليهودية التي أنشأها الاستعمار الغربيّ وما انفكّ يرعاها.
أوّل مطلقي حلّ الدولتين، المزعوم والمفترض نظريّاً، هو المفكّر السياسي الأميركي والعالم الألسني تشومسكي
في وثائق ونصوص جمعها الأكاديميّ الإسرائيليّ إسرائيل شاحاك (صدرت ترجمتها العربية عن مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1975) يرد كلام لبن غوريون في مؤتمر المجلس العالمي لعمّال صهيون الذي انعقد في زيوريخ عام 1937، يكشف فيه الأهداف الحقيقية للمشروع الاستيطانيّ الإحلاليّ لأرض فلسطين، ومما قال: "تعوّدنا حتى الآن أن نرى في الوثائق الرسمية تأويلات تعتدي على حقوقنا وتحدّ منها. وللمرّة الأولى، سنحت لنا الفرصة لنسمع من فم لجنة پيل الملكية الآتية من إنكلترا أنّ الوعد الذي أعطي للشعب اليهودي (وعد بلفور) يتضمّن إمكان تحوّلنا إلى أكثرية وإنشاء دولة يهودية مستقلة، ليس في جزء واحد من البلد، بل على أرض إسرائيل التاريخية (على الرغم من أن الوعد لم يلتزم بذلك صراحة). في الواقع، حدود هذه الدولة غير مرسومة. لقد تبدّلت وتحوّلت من زمن إلى آخر، ولكن لا شك في أنّها تشمل شرق الأردن، وليس ذلك القسم من شرق الأردن الذي أعطي للملك عبدالله ليحكمه فحسب، بل أيضاً القسم الشماليّ منه عبر اليرموك الذي أعطي للانتداب الفرنسي. هذه الدولة اليهودية التي يقترحونها علينا (حتى مع التعويضات الممكنة والتحسينات الآتية لمصلحتنا) ليست الهدف الصهيونيّ. إذ لا يمكن حلّ المشكلة اليهودية على هذه الرقعة. لكن لا بد لهذه الدولة من أن تشكّل مرحلة حاسمة على طريق تنفيذ الهدف الصهيوني الأكبر، لأنها ستنشئ في البلد خلال فترة قصيرة القوة اليهودية الفعلية التي ستقودنا إلى الأرض التي نريدها تاريخياً. ولم يفت اللجنة الملكية نفسها صغر الرقعة التي تقدمها للدولة اليهودية.
ويتضمّن اقتراح نقل السكان العرب من هذه الأرض (برضاهم إن أمكن وإلّا قسراً) إمكان توسيع الاستيطان اليهودي. ويبدو لي من غير الضروريّ شرح الفرق الجوهريّ والعميق بين الطرد والنقل. حتى الآن، حققنا استيطاناً عن طريق نقل السكان من مكان إلى آخر. ولم نضطر خلال عمليات استيطاننا إلى نقل السكان الذين كانوا موجودين قبلنا إلّا في أماكن قليلة جداً. ماذا سيحدث بعد خمس عشرة سنة (أو أي عدد آخر من السنين) عندما تصل الدولة المقترحة ذات الرقعة الصغيرة إلى نقطة الإشباع السكاني، وأيّ جواب سنعطي عندئذ إلى جماهير اليهود التي ستطالب بالهجرة حين لا يكون لدينا أي مكان لها في الدولة اليهودية؟ لا لزوم لمن يريد أن يكون صريحاً مع نفسه أن يغرق في النبوءات حول ما ستكون عليه الحال بعد خمس عشرة سنة، إذ يعتمد الأمر عندئذ على ما يحصل خلال هذه السنوات الخمس عشرة. ومثلما لا أرى في الدولة اليهودية المقترحة حلاً نهائياً لمشاكل الشعب اليهودي كافةً، كذلك لا أنظر إلى التقسيم على أنّه الحلّ الأخير لمشكلة أرض إسرائيل. إنّ أعداء التقسيم كانوا على حقّ عندما قالوا إنّ هذا البلد لم يُعطَ لنا كي نقسّمه، فهو لا يشكل فقط وحدةً من الناحية التاريخية، بل أيضاً من الناحيتين الطبيعية والاقتصادية. على المؤتمر أن يعلن ما هي أرض إسرائيل بالنسبة إلى الشعب اليهودي. أرض إسرائيل كلّها بتمامها، وبحدودها الطبيعية والتاريخية".
كلام بن غوريون الصريح والواضح هذا ما برح ساري المفعول: فلسطين المحتلّة هي "رقعة صغيرة" لا تتسع لطموح المشروع الصهيونيّ، وهذه الرقعة مرشّحة للتوسعة لا للتنازل أو للتقسيم ... وفي هذه الحال، كيف يبقى "حلّ الدولتين" احتمالاً ممكناً وقابلاً للبحث من الجانب الصهيونيّ؟