ثمّة خداع أميركي تبلور باكراً، وقصد توفير غطاء دبلوماسي لجريمة إسرائيل في حرب الإبادة ضد قطاع غزّة وأهله، تمثل في رفض الولايات المتحدة التهجير القسري. خدّر هذا الموقف دولاً عربية وأطرافاً دولية كثيرة، وربما بعض الفلسطينيين، تحت وهْم أن الولايات المتحدة بطولها وعرضها تضع خطّاً أحمر أمام إسرائيل إزاء موضوع التهجير. وعلى الأرض، كانت إسرائيل تشتغل على تنفيذ هذا التهجير القسري، ولكن من دون رفع لافتته. ما رأيناه في الشهرين الماضيين حرباً إسرائيلية ضروساً، هدفها تخليق كل ظروف التهجير، ومسح أية خيارات أمام فلسطينيي قطاع غزّة سوى خيار التهجير. يقف الفلسطيني على حد البرّ المصري، أو حد البحر المتوسّطي، وراءه دمار بيته، وأمامه ما تبقى من عائلته، جريحاً جائعاً، ثم يُترك له أن يختار خيار الهجرة... فيهاجر طوعاً! هذه هي الهجرة الطوعية التي تقبلها أميركا ولا تنتقدها وتشتغل عليها إسرائيل. لن يقول العالم إن إسرائيل طردت الفلسطينيين، فهؤلاء خرجوا وهاجروا طواعية. إنه مسلسل النكبة الأولى ذاته، حيث تدّعي إسرائيل دوماً أن الفلسطينيين هاجروا ديارهم اختياراً وليس قسراً، ومن يغادر اختياراً لا يعود له حقّ العودة أبداً!
هذا هو أخطر ما في الحرب الحالية: تخليق "هجرة طوعية" في ظاهرها، لكن جوهرها وظروفها ومعطياتها "هجرة قسرية" تامّة. وفي هذه الحالات، من الصعب لوم الأفراد والعائلات على اتخاذ قرار فيه نجاة لمن ظلّ على قيد الحياة. المطلوب هنا كسر معادلة إسرائيل والولايات المتحدة، بدءاً بوقف الحرب، ومعه تدفّق المساعدات على نحو كبير، ما يبعث بسرعة كبيرة أملاً للناس بأن البقاء ممكن ومحتمَل، وليس فقط واجباً وطنياً.
نجد في خطّة التفريغ والتهجير التفسير السياسي - العسكري الوحيد للتدمير الممنهج والمرعب للمدن والمخيمات والمناطق والمستشفيات والمدارس وحتى آبار المياه
تزداد مخاطر "التهجير الطوعي - القسري"، إذ تضيق الفسحة الزمنية أمام الوحشية الإسرائيلية من دون الوصول إلى صورة النصر المُقنع الذي يبحث عنه قادة الإرهاب الإسرائيلي. مع غياب هذه الصورة، ينتقل "التهجير" من موقع هدف مأمول حدوثه نتيجة للحرب إلى الهدف الرئيسي للحرب، إذ لم يتبقّ أمام إسرائيل سوى إنهاء الحرب الإبادية بـ "نكبة ثانية". هنا، تبهت الأهداف الرئيسة المعلنة، مثل إنهاء حركة حماس، وتأمين قطاع غزّة أمنياً، وسوى ذلك. رؤية مئات الألوف من فلسطينيي غزّة يتدافعون خارج القطاع برّاً إلى صحراء سيناء، أو بحراً على سفنٍ تُبحر بهم إلى المجهول، هي ما يريد قادة إسرائيل التلذّذ برؤيته، انتقاماً لفشلهم العسكري، وانتقاماً من كل الفلسطينيين. هذه الصورة هي ما يمكن أن يقدّمه هؤلاء إلى الرأي العام المتحفّز هو الآخر للانتقام والمتشفّي بصور القتل والتدمير الجماعي اليومية.
بعد شهرين من القصف الجوي الهيروشيمي الموغل في الإجرام، لم تستطع إسرائيل كسر إرادة المقاومة الفلسطينية، ولا تزال الصواريخ تنطلق من القطاع وتضرب تل أبيب. هذا يعمّق الإهانة العسكرية، التي لا تجد ردّاً سوى الإيغال في الانتقام من المدنيين. احتاجت أميركا في غزوها العراق عام 2003 أقلّ من شهر حتى تحتلّ بغداد، وشهراً ونصف الشهر كي يعلن جورج دبليو بوش في خطابه المتشاوف أن "المهمّة أنجزت". ذاك كان حال حربٍ على العراق الواسع بمساحته الهائلة، وبجيشه ذي المليون جندي. في غزّة العنيدة، تنتقم إسرائيل من المدنيين الفلسطينيين وتسجل انتصاراتها عليهم، أما عسكرياً فما زال أمامها طريق طويل وعلى الأغلب لن تتمكّن من قطعه.
يتخلّق "التهجير الطوعي" من قطاع غزة يومياً أمام الجميع، وفي جوهره وكل مظاهره ليس إلا تهجيراً قسرياً بامتياز وإجرام
احتلّ تهجير الفلسطينيين من أي بقعة من فلسطين رأس قائمة الأولويات الصهيونية في كل الأوقات، وفي كل حين أتاحت الظروف أو قد تتيح تطبيقه. واليوم توفّر الحرب المجرمة والتأييد الأميركي والغربي الأكثر إجراماً لإسرائيل فرصة ذهبية لتنفيذ حلقة من هذا التهجير، تكون هي الفصل شبه الأخير من الحرب. لم تعد هناك خطط سرّية، كلّها مكوّمة فوق الطاولة وفي وضح النهار: أمن إسرائيل "المقدّس" يقتضي تفريغ قطاع غزّة من سكانه، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش. يتم تنفيذ هذه الخطة يومياً أمام مرأى العالم والعرب. هكذا نجد في خطّة التفريغ والتهجير التفسير السياسي - العسكري الوحيد للتدمير الممنهج والمرعب للمدن والمخيمات والمناطق والمستشفيات والمدارس وحتى آبار المياه. ويشبع هذا التدمير والتقتيل غريزة إسرائيلية متأصلة أتاحت لها الحرب الحالية الظهور والتعبير عن نفسها بكل وقاحة: القتل لأجل القتل. والتصريحات التي يتلفّظ بها قادة وسياسيون وحاخامات ومستوطنون عن قتل الفلسطينيين وإبادتهم أصبحت أمراً "عادياً" نقرأ ويقرأه العالم المنافق كل يوم.
تقوم خطّة التهجير، كما هي قيد التنفيذ في طول قطاع غزّة المكلوم وعرضه، كما نرى جميعاً، على دفع جميع سكانه من الشمال والوسط إلى الجنوب، وحشرهم في منطقة ضيقة جداً تحت القصف المستدام من السماء، والجوع والهلع وغياب أساسيات الحياة. تكثيف الضغط وزيادة حشر الفلسطينيين في رفح سوف يصل إلى نقطة الانفجار التي لا مفرّ بعدها من اندفاع مئات الألوف عبر الحدود المصرية، سواء بموافقة مصر أو عبر الضغط عليها، بسبب وصول الأزمة الإنسانية إلى نقطة لا يمكن تحمّلها محلياً وعالمياً.
إفشال "التهجير الطوعي" أهم مهمة وطنية وعربية وإنسانية في الوقت الراهن. ويجب عدم الركون إلى الرُّشا اللفظية الأميركية التي تلوك مواقف هدفها منح إسرائيل مساحة زمنية وأرضية سياسية وعسكرية لاستكمال ما تقوم من إجرام، إلى جانب الموقف الأميركي اللفظي الرافض التهجير القسري. أشغلت واشنطن عواصم العرب والعالم بالحديث عن اليوم التالي بعد الحرب، ومن سيقود غزّة، وكيف يتجه مآلها السياسي. هنا قدّم المسؤولون الأميركيون رطانة وإغراءات لغوية متنوّعة عن ضرورة حلّ الدولتين، وعدم إنقاص مساحة قطاع غزّة، وضرورة تواصله مع الضفة الغربية. اندرجت أطرافٌ كثيرة في وحل هذه الرطانة. في الوقت الذي يموت فيه مئات الفلسطينيين يومياً بما يفرض وقف الحرب مباشرة أولوية قصوى، تفرّعت ثانوياتٌ هنا وهناك، وتصاعد من بينها أولوية غزّة في اليوم التالي! هذه وقاحة مفارقة إلى حد الغثيان، تواصل إسرائيل قتلها، وتنزوي المطالبة بوقف الحرب والجهد لتحقيق ذلك، فيما ينهمك المنهمكون على تفصيل كفن غزّة في اليوم التالي. كل التفلسف اللفظي الأميركي الذي نسمعه فجأة عن حلول سياسية وأطروحات مستقبلية لا يتعدّى مسكّنات تخدير لشلّ أي جهد يطالب بوقف فوري للحرب، ويهدف إلى شراء وقت إضافي لإسرائيل، بغية استكمال ما فشلت في استكماله. كلما كرّرت واشنطن موقفها الاستعراضي الرافض التهجير القسري، فإنها تقول، بوضوح ومن دون مواربة، إنها لا ترفض "التهجير الطوعي" الذي يتخلّق يومياً أمام الجميع، وفي جوهره وكل مظاهره ليس إلا تهجيراً قسرياً بامتياز وإجرام.