مع كل يومٍ يمرّ على الحرب الإجرامية التي يشنّها الجيش الصهيوني المدعوم أميركيا وغربيا، ترتقي أرواح المزيد من الشهداء الفلسطينيين الأبرياء، وفي الوقت نفسه، تسقط "كليشيهات" غربية كثيرة عن حقوق الإنسان وحرّية الصحافة، ولعل أبرز نموذج على هذا السقوط المدوّي لمجموعة من الصور النمطية الغربية تلك التي شهدها مجال الإعلام والصحافة والحقّ في المعلومة بصفة عامة، إذ لا يكاد يمرّ يوم حتى تنكشف ازدواجية المعايير الغربية، عندما يتعلّق الأمر بتعاطيها مع الحرب على غزّة، وعلى الفلسطينيين بصفة عامة، وبكل ما يصدر عن إسرائيل أو يمسّ مواطنيها على علاقة بهذه الحرب وتداعياتها.
كان أول سقوط مدوٍّ للغرب وإعلامه، عندما تبنّوا، منذ اليوم الأول، الرواية الدعائية الإسرائيلية عن قتل أطفالٍ رضّع إسرائيليين داخل مستوطنات غلاف غزّة، وقطع رؤوسهم، بل وحرقهم داخل أفران الطبخ المنزلية، ليكتشف العالم بعد ذلك زيف تلك الكذبة، وتتضح الصورة التي أكّدها الإعلام العبري نفسه عندما كشف أن قصفا عشوائيا نفّذه الجيش الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر هو ما استهدف المستوطنات والسيارات، وكل من كان يتحرّك على الأرض، وأدّى إلى مقتل إسرائيليين مدنيين وحرقهم، بينهم أطفال ونساء وشيوخ بنيران جيش الدفاع الإسرائيلي. أما السقوط الثاني للإعلام الغربي فأبرزته العناوين التي اختارتها كبريات القنوات ووسائل الإعلام الغربي لتسمية العدوان الإسرائيلي على غزّة، عندما اختارت عناوين منحازة وغير مهنية، من قبيل "حرب إسرائيل وحماس"، وكأن الأمر يتعلق بحرب متناظرة، أو "إسرائيل في الحرب"، بينما إسرائيل هي التي تقود يوميا عدوانا همجيا على المدنيين الأبرياء. وأخيرا، وليس آخرا، تجنّب وصف ما يجري بأنه "جرائم حرب" أو "جرائم إبادة جماعية"، أو "عملية تطهير عرقي". وفي المقابل، ترديد وصف هجوم "حماس" يكل الأوصاف التي تدينه وتجرّمه لنزع صفة الإنسانية عن المقاتل والمقاوم الفلسطيني.
القصص الإنسانية الفلسطينية التي تنقلها على الهواء مباشرة قنوات عربية تتجنّب أكبر وسائل الإعلام الغربي نشرها
وكان السقوط الثالث الكبير عندما صدّق الإعلام الغربي التبرير الصهويني لإستهداف المباني السكينة والمدارس والمساجد وقصف المستشفيات واقتحامها وطرد المرضى والجرحى منها، بدعوى أن مقاتلي المقاومة يختبئون تحتها أو داخلها متّخذين من المدنيين دروعا بشرية لحماية أنفسهم. ومرّة أخرى، انكشف زيف هذه الكذبة من خلال الفيديوهات المزيّفة والممنتجة التي عمّمها الجيش الإسرائيلي، عما زعم أنها أدلة على صحّة ادعاءاته، ولم يصدّقها حتى الصحافيون الغربيون الموالون له، والذين قبلوا، في خرقٍ سافرٍ لأبسط قواعد المهنية، أن يُشحنوا داخل الدبابات الصهيونية لمرافقة الجنود بحثا عن "صيد" إعلامي كبير فكانت خيبتهم كبيرة وخسارتهم مصداقيتهم أكبر وأفدح، عندما وقفوا بأنفسهم على ضعف الأدلة الإسرائيلية التي لم تحترم ذكاءهم.
السقوط الكبير الرابع لمصداقية الإعلام الغربي، تجلّى في بحثه عن "القصص الإنسانية" في الجانب الإسرائيلي، وتركيز الاهتمام على قصص الرهائن والأسرى الإسرائيليين وإظهار معاناة أسرهم، وعندما أفرجت المقاومة الفلسطينية عن مجموعة من الرهائن لأسباب إنسانية، وروى المُفرج عنهم الظروف التي كانوا محتجزين فيها، والمعاملة الحسنة التي تلقّوها عند محتجزيهم، تم التشكيك في شهاداتهم، أو فقط انتقت بعض وسائل الإعلام الغربية ما يتناسب منها مع خطّها التحريري المساند للرواية الدعائية الصهيونية. أما القصص الإنسانية الفلسطينية التي كانت تنقلها على الهواء مباشرة قنوات عربية، فكانت أكبر وسائل الإعلام الغربي تتجنّب نشرها، وتكتفي بنقل صور بعيدة بانورامية لمدن قطاع غزّة وهي تحترق تحت القصف الصهيوني، حتى لا تُظهر الصور العنيفة، التي تُدمي القلب وتستفز صاحب كل ضمير حي، للأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين ضحايا القصف الهمجي الإسرائيلي، والتي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي.
يتجاوز عدد الصحافيين الذين استشهدوا جرّاء العدوان الإسرائيلي المستمرّ عدد الصحافيين الذين قتلوا في حرب فيتنام التي دامت عشر سنوات
ونأتي إلى السقوط الأخلاقي الخامس المدوّي والفاضح لكل مصداقية لدى الحكومات والإعلام والمنظمّات الغربية التي تنصّب نفسها مدافعة عن حقوق الإنسان وحرّياته، وهو الذي يتعلق بالتعامل مع المأساة التي يتعرّض لها الصحافيون الفلسطينيون في غزّة وفي الضفة الغربية، وزملاؤهم في جنوب لبنان. ويكفي أن نقول إنه لم يسبق لأي حربٍ أو صراع في التاريخ المعاصر أن شهد سقوط هذا العدد الكبير من شهداء الحرية، قياسا مع الفترة الزمنية أو الرقعة الجغرافية، يمكن مقارنته مع عدد الصحافيين الذين استشهدوا في غزّة ولبنان، وفاق عددهم 92 صحافية وصحافيا في نحو 70 يوما، من دون تعداد عائلات الصحافيات والصحافيين الذين استهدفوا واستشهدوا ودمّرت بيوتهم، ومن بقي منهم على قيد الحياة كان مصيرهم التشرّد واللجوء، مثل أكثر من مليون وربع مليون من سكان قطاع عزّة تحولوا إلى لاجئين فوق أرضهم، معرّضين للقصف والقتل في كل لحظة وحين!
ولإدراك حجم وهول الكارثة التي لحقت بالصحافيين في غزّة، يكفي أن نقارن ضحايا الحرب على غزّة من الصحافيين بعدد الصحافيين الذين سقطوا في الحرب العالمية الثانية، بكل أهوالها، والتي استمرت ستّ سنوات، وشملت العالم كله، وسقط فيها أكثر من 50 مليون شخص، من بينهم 69 صحافيا! وفي مقارنة أخرى، يتجاوز عدد الصحافيين الذين استشهدوا جرّاء العدوان الإسرائيلي المستمرّ عدد الصحافيين الذين قتلوا في حرب فيتنام التي دامت عشر سنوات، وسقط فيها نحو 71 صحافيا. وأخيرا، يكاد عدد شهداء الحقيقة في غزّة يفوق أعداد جميع الصحافيين الذين سقطوا في حروب العراق وأفغانستان واليمن وليبيا وسورية وأوكرانيا، مجتمعة!
ما نشهده هو حماية للمجرم ومساعدته على الإفلات من العقاب، إلى درجة أصبحت فيها إسرائيل فوق كل القوانين
ليست الحرب الحالية على غزّة فقط الأكثر دموية في عصرنا بالنسبة للصحافيين الذين يغطّون الحروب، وإنما هي التي شهدت أكبر إنكار وعدم اعتراف بالتضحيات العظيمة التي تقوم بها الصحافيات والصحافيون في غزّة اليوم لإخبارنا بالحقيقة ولنقل الصورة التي تحاول إسرائيل إخفاءها، حتى لا يرى العالم بشاعة جرائمها، فلو كان وائل الدحدوح صحافيا أوكرانيا، لمنح جائزة بوليتزر تقديرًا خاصًا لشجاعته في الاستمرار في تغطية هذه الحرب التي قتلت نصف عائلته، واغتالت زميله وأصابته هو نفسُه بجروح كاد أن يفقد معها حياته، فالدحدوح وكل زملائه الصحافيين العاملين في غزّة، وكلّهم فلسطينيون غزّيون، يستحقون منّا كل التحية والدعم والمساندة، لأنهم يعملون ويستشهدون، ويفقدون أعزّ وأقرب الناس إليهم ويصابون ويستمرّون في أداء مهنتهم بكل مهنية وموضوعية وشجاعة، تجعلهم أبطالا حقيقيين يجسّدون كل المثل العليا لمهنة الصحافة، وما تحمله من رسائل وقيم نبيلة.
بدلا من تكريم هؤلاء الأبطال، ما نشهده هو حماية للمجرم ومساعدته على الإفلات من العقاب، إلى درجة أصبحت فيها إسرائيل فوق كل القوانين. وفي هذا الأمر، خطورة على الغرب نفسه وعلى مصالحه، لأنه عندما يحمي إسرائيل، ويغطّي على جرائمها ويبرّرها ويدافع عنها فإنه يقوّض كل مصداقيته في الدفاع عن حقوق الإنسان والحرّية والديمقراطية وكل القيم التي يدّعي الدفاع عنها، وفي الوقت نفسه، فإنه يبعث رسائل تشجع الأنظمة الاستبدادية في المنطقة على التمادي في انتهاكاتها لحقوق الإنسان في بلدانها وفرض مزيد من القيود على حرّيات مواطنيها. ما أسقطته هذه الحرب هو الضمير الأخلاقي للغرب. ومع هذا السقوط المدوّي، لا نملك إلا أن نردّد مع الدحدوح "ماعليش"، ليس استسلاما لليأس أو تعبيرا عن حالة ضعف، وإنما لأننا اكتشفنا متأخّرين الحقيقة المرّة أننا عشنا مخدوعين عدة سنوات، وربما عقود، بنفاق الغرب وازدواجية معاييره!