بدعوة كريمة من منتدى الدوحة 2023 ووزارة الخارجية القطرية، شاركت في جلسات منتدى الدوحة 2023 (Doha Forum 2023)، والذي عُقد في فندق الشيراتون بالعاصمة القطرية، ولمدة يومين 11-12 من هذا الشهر. حضر المؤتمر أكثر من ألفي شخص، وبلغ عدد الجلسات الرئيسية والفرعية والدوائر المستديرة ما لا يقل عن 100 جلسة. وقد كانت فرصة هائلة للقاء بعض الأصدقاء الذين طال الزمن على رؤيتهم، والتعرف على وجوه أعرفها وتعرف وجهي ولكننا التقينا رغم هذا لقاء الأصدقاء.
شارك في أعمال المؤتمر وجلساته نجوم الأخبار المهمون في الوقت الحالي، ومن أبرزهم الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني رئيس الوزراء ووزير الخارجية في دولة قطر والسفير الفلسطيني في لندن حسام زملط، ورئيس وزراء فلسطين د. محمد اشتيه، ووزير خارجية الأردن أيمن الصفدي، والسيناتور الأميركي المحافظ والمتطرف ليندسي غراهام، وأمين عام الأمم المتحدة انتونيو غوتيريس، ومساعده مارتين غريفيث (M.Griffth) الذي يشرف على تقارير نظام المساعدات الإنسانية والطوارئ الدولية والمشرف كذلك على التقرير الصادر عن الأمم المتحدة ( Global Humanitarian Overview). وحضر كذلك وزراء من كل القارات والدول. ولعل من أكثر الأشخاص الذين أعجبوني كان وزير خارجية البوسنة علم الدين كوناكوفيتش (E. Konakovic) الذي قدم مداخلات متميزة خلال ندوة عن التعددية الدولية التي صارت تتمثل في الاتحادات والتحالفات الإقليمية.
ولكن الموضوع الأساسي الذي سيطر على المؤتمر هو حرب غزة الدائرة الآن، وأفعال إسرائيل الهمجية واعتداءاتها الوحشية على أهل غزة نساءً وأطفالاً وبنى تحتية وفوقية مما أعيا كل المؤسسات الدولية. وقد كان حضور ممثلي الأمم المتحدة العاملين رسمياً فيها أو المبعوثين منها أو مديري مؤسساتها مثل أونروا وأمينها العام واضحاً وبارزاً في تأكيد الحقائق الدامية، والمخالفات المدوية للنظام الإنساني وميثاق الأمم المتحدة، وميثاق السلوك إبان الحروب. وقدم كل هؤلاء شهادات مهمة جداً ضد فظائع الجنود الإسرائيليين وأفعالهم المدانة التي تشكل إدانة واقعية لإسرائيل وحكومتها بأنها عنصرية، وتطبق نظم الأبارتايد، وأفعال الإبادة الجماعية (الجينوسايد)، وترتكب فظائع لاإنسانية.
وقد ساهم المؤتمر في تقديم هذا الكيان على حقيقته. وفي مداخلة لرئيس وزراء قطر في نهاية جلسة الافتتاح، أكد أنه دعا شخصيات سياسية من إسرائيل للحضور لأن منتدى الدوحة يقوم على السعي للوصول إلى تفاهم حول القضايا الشائكة والخلافية بالاستماع إلى كل الأطراف والمواقف إثراء للبحث والتعمق وذلك بهدف الوصول إلى حلول فعالة قابلة للتنفيذ.
وأما الموضوعات الاقتصادية المالية، فقد غلبت على النقاش وحقائقها وردت على ألسنة كثير من المتحدثين في اللقاءات المختلفة. ففي كلمته أكد مارتن غريفيث أن عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة يصل إلى (300) مليون إنسان. وامتدح دولة قطر وأميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني على الكرم في التبرع في هذا المجال، ولكنه اشتكى من أن الطلب على هذه الخدمات يزداد.
ولم ينس المتحدثون المختلفون الإشارة إلى أن غزة والمآسي الجارية فيها يجب ألا تلهي عن المشكلات الإنسانية المفزعة في اليمن، والسودان، والصومال وإلى الكثيرين الذين يعانون من المشاكل الناجمة عن تدهور البيئة، وكثرة الحروب، وسوء توزيع الدخل والثروة في العالم. وهذه الثلاثية الشيطانية يسند كل ضلع فيها الضلعين الآخرين ما يفاقم ديناميكية الشر وإبراز الفرق الواضح في الجهد الانساني عن المطلوب بَذْله.
وأكدت الأرقام أن أكثر المحتاجين للمساعدة في العالم هم من الفئات السكانية الهشة كالأطفال والنساء والمعوقين والمؤرقين نفسياً بفعل القسوة التي يحياها هؤلاء في دول كثيرة في العالم.
وفي الوقت الذي تركز فيه البحث على مظاهر البؤس والفقر والتهميش، إلا أن الحل يجب أن ينصب بالدرجة الأساسية على الأسباب الجذرية (root causes) لهذه المآسي والسعي لمعالجة الأسباب. ولذلك برزت الضرورة لإصلاح نظام المساعدات الإنسانية، وإصلاح آلية صنع القرار في مجلس الأمن الدولي خاصة بعدما أفشل "فيتو" الولايات المتحدة محاولات مجلس الأمن للوصول إلى قرار إنساني من أجل تحسين تدفق المساعدات الإنسانية لأهل غزة.
ومن ناحية أخرى فقد برزت القضايا الاقتصادية في ندوة مهمة عقدت حول دور الذكاء الاصطناعي في التأثير على اقتصادات الدول. ودار نقاش حول مساهمة هذا الذكاء في حل المشكلات الإنسانية من ناحية، وحول مساهمة سرعة التوسع في فجوة الدخل والثروة بين الدول وفي الدول الفرادى ذاتها من ناحية أخرى. ولكن الجميع مال أكثر إلى التركيز على قدرة الذكاء الاصطناعي على حل المشاكل في إنتاج الغذاء، وتنظيم سلاسل التزويد العالمية، والاستفادة من أن الحروب المفرقة بين الدول يجب أن تجمعها الإرادة لتسخير تكنولوجيا المعلومات في محاربة فساد البيئة. وإعادة توزيع الحاجات الإنسانية بعدالة على مختلف مناطق الدنيا. وعلى التصدي للأمراض السارية إما تلك التي عاد ظهورها بعد الاعتقاد أن السيطرة عليها قد تحققت أو الأمراض الجديدة السارية مثل كوفيد 19 ومشتقاته.
وكذلك بحثت ملفات خاصة من أجل المساهمة في الوصول إلى حلول للأزمة اليمنية التي طال الأمد عليها بلا حل. وكان هناك حضور يمني متميز. وكذلك، فإن المشكلة السودانية كان لها نصيب من البحث والمداولة خاصة وأن الحكومة المركزية قد بدأت تحقق نجاحاً أكبر في لملمة الأمور قبل أن يتقسم البلد.
ومع أن كلاً من سورية ولبنان والعراق في المشرق العربي يواجه مشكلات واضحة وبخاصة الاقتصادية منها، إلا أن الحضور من هذه الدول أو المتحدثين عنها كان قليلاً.
أما الأردن فقد منح فرصتان لتوضيح موقفه من حرب غزة ومآلاتها. فقد كان رئيس الوزراء د. بشر الخصاونة وكذلك وزير الخارجية أيمن الصفدي موفقين تماماً في ردودهما على الأسئلة الموجهة إليهما من قبل مدير الجلسة.
وأما مصر فقد كانت تشهد انتخابات رئاسية كثر الحديث عنها والجدل حولها. فهل كان الإقبال على صناديق الاقتراع مقنعاً أم لا؟ وهل أثرت حرب غزة على اختيارات الشعب المصري. وإعادة توجيه اهتمامه من الاقتصاد والغلاء والدين العام واحتمالية تخفيض الجنيه المصري إلى التركيز على القضايا السياسية الماثلة في حدود مصر وأمنها وكرامة أراضيها؟
والواقع أن الجانبين مترابطان، وكل واحد منهما ينطوي على تحديات ليست بالسهلة. ولكن بعض النقاش تحول هناك من حل المشكلة الاقتصادية على حساب القضايا الأساسية أو التساهل فيها. الواضح أن الشعب المصري ذو الحكمة المختزنة عبر العصور يفضل الكرامة السياسية على المنافع الاقتصادية.
أحسنت دولة قطر في عقد هذا المؤتمر الكبير والناجح. وأقول بكل فخر إن المؤتمر على مستواي الشخصي وعند كثير ممن حدثتهم في المؤتمر قد كانوا مجمعين على أنه مؤتمر كبير وناجح، وأن دولة قطر أبدت قدرة عالية على عقد مؤتمرات تسعى لوضع الحلول بدلاً من الاكتفاء بجعلها مواد إخبارية، بل مواد للتشابك العلمي الإبداعي الذي يجسر بين المفكرين والسياسيين.
ولقد بذل المسؤولون في قطر جهداً وتركيزاً واضحين أثناء إقامة المؤتمر. فقد افتتحه الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. وحضر فيه رئيس الوزراء جلسات على مدار اليومين. وكذلك أعجبني وزير الدولة بوزارة الخارجية الدكتور محمد بن عبدالعزيز الخليفي والذي يتمتع بحسن التعبير وإتقان اللغة الإنكليزية.
قطر أحسنت وسدت فراغاً في خلق مؤسسة فعالة وراغبة في أن تسهل الأمور لحل الخلافات.