تمنّيت لو أن الرئيس الأميركي جو بايدن أتبع خطاب "التوبيخ" الذي وجّهه إلى نتنياهو منتقدًا تطرّف حكومته، ومطالبًا إياه باستبدالها، باعتذار رسميّ عن موقفه المنحاز للعدوان الصهيوني لدى بدء الحرب، وتبنّيه الرواية الإسرائيلية بشأن "الأطفال مقطوعي الرؤوس"، واغتصاب النساء، غير أنه لم يفعل كدأب أسلافه من رؤساء أميركا، الذين يرون في الاعتذار حطًّا من كرامتهم.
وما أشبه الليلة بالبارحة، عشيّة حملة التضليل الأميركي لشيطنة النظام العراقي السابق، وإظهاره بمظهر "قاتل الأطفال" الخدج في المستشفيات قبيل عدوان التحالف الدولي 1991 على العراق. وعلى الرغم من أن جورج بوش الأب لم يكن يحتاج ذرائع لهذا العدوان، لكنه أراد أن يضفي مسحةً إنسانيةً على حملته، فجاءت تلك الذريعة التي خدع بها الكونغرس لتمويل الحملة. ولم يُكتشف التضليل والتزييف إلا بعد انتهاء الحرب، ومرّت المجازر بلا أدنى اعتذار من الرئيس الكاذب، أو من الكونغرس المغرّر به.
ثم تكرّر الضلال والتضليل في الحرب الأميركية الثانية التي أفضت إلى اجتياح بغداد سنة 2003، وكانت الذريعة هذه المرّة السلاح الكيماوي الذي يمتلكه العراق، واستخدمت في الحملة صور شاحنات عراقية تنقل الأسلحة المحرّمة دوليًّا، وليثبُت بعد الاجتياح والاحتلال أن الصور زائفة، وأن العراق لم يكن يمتلك تلك الأسلحة بعد عقد ونيف من الحصار الخانق. وعلى الغرار نفسه، تنصّلت الإدارة الأميركية من أي اعتذار، على الرغم من أنها دمّرت دولةً برمّتها.
ثمّ عاد التضليل الرخيص ذاته في العدوان الهمجيّ على غزّة، عندما تبنّى الرئيس بايدن السردية الصهيونية، وشاطر نتنياهو الدمع والنواح، وشاطره في ذلك مسؤولون في البيت الأبيض الذي تحوّل إلى "بيت عزاء"، قبل أن تُكتشف الخدعة، ويتبيّن أن السردية مفبركة في تل أبيب.
كان واضحًا أن ثمة غضبًا أميركيًّا مكتومًا على حكومة إسرائيل، لا على إسرائيل نفسها، التي أعاد بايدن تكرار عبارته الشهيرة بشأن "اختراعها" لو لم تكن موجودة، غير أن هذا الغضب، وإن قلّ، تأثيره كبير على إسرائيل؛ لأنها تعرف جيدًا ما يعنيه ذلك، ولكونها لا تقيم وزنًا لغير أميركا من دون سائر الدول. لكن من المبكّر الحديث عن تحوّل جذريّ في الموقف الأميركي الرسمي حيال إسرائيل، فذلك قد يحتاج عقودًا طويلة.
وبالعودة إلى حملات التضليل الصهيونية السالفة التي انقلب سحرها على الساحر، والتي لم تكن موجّهة إلى مسؤولين ورؤساء وأنظمة غربية، فهؤلاء لا يحتاجون أدلة أو ذرائع ليسارعوا إلى الاصطفاف في طوابير العسكر الصهيوني، لأنهم مع إسرائيل على "الحلوة والمرّة"، في السرّاء والضرّاء، ينصرونها ظالمة أو مظلومة، ويعتبرونها من "عظام الرقبة"، إلى حدّ أنهم على استعداد للتضحية بديمقراطياتهم، وحرّياتهم؛ بل المقصود هو المواطن الغربي؛ الذي تسعى اللوبيات الصهيونية إلى استقطابه، واستمالته إلى سرديتها، والانحياز لقضاياها، لأنها تدرك جيّدًا معنى التحشيد الشعبي الغربي لنصرتها، غير أن الدم الذي لا يغطّى بغربال كان أوضح من كل السرديات المضلّلة، فشهدنا التحوّل المهول في الشارع الغربي لصالح الفلسطينيين وحقوقهم، لا سيما من فئات الشباب الذين لم يعودوا يضرسون من حصرم آبائهم، وهذا ما تثبته استطلاعات رأي أخيرة تبيّن أن شباب الغرب باتوا أزيد مناصرة للحقوق الفلسطينية من عجائزه.
والحال أنه يُحسب للمقاومة في غزّة أنها استدركت أهمية "حرب الصورة"، في الأيام الموالية للعدوان الصهيوني، فبدأت توظّفها لصالح سرديّتها الصادقة، لا سيما في طريقة التعامل مع الأسرى، وهو ما يجعلنا ندعو إلى التوسّع في توظيف الصورة، وبكل اللغات الحية، إلى أولئك الذين لا يعرفون عن القضية الفلسطينية سوى ما تنقله إليهم الرواية الصهيونية... ولنا أن نتخيّل ما تحفل به تلك الرواية من مغالطاتٍ وفبركات.
عمومًا، ربما كان لعملية طوفان الأقصى حسنة أخرى تُضاف إلى سلسلة الحسنات الأخرى، وفي مقدمها أنها نبّهت إلى أهمية مخاطبة العقل الغربي ووجدانه، وذلك ما يحتاجه الفلسطينيون في حروبهم المقبلة.