دخلت الأحزاب العراقية، الجديدة والقديمة، بعد العام 2003، في تنافسٍ شرسٍ على النفوذ والمصالح، والحجوم السياسية، ومن الذي يقود ومن الذي يتبع، وسرعان ما طفا "التمثيل الهوياتي" على السطح أداةً ناجعةً لتحشيد الجمهور العام غير المسيّس، والذي لم يكن يملك، بسبب عقود طويلة من الاستبداد، أي خبرةٍ سياسية.
كان هناك تهديدان كبيران في ذلك الوقت؛ الأول قادمٌ من جهة المجتمع، فهناك خشيةٌ من أن لا يؤيد جميع العراقيين هذه الوصفة للنظام السياسي الجديد. وهذا ما تكشّف سريعاً، حيث أعلن جزءٌ من الشيعة ونسبة كبيرة من السنّة معارضتهم للنظام الجديد. الثاني قادم من تركيبة الأحزاب والتيارات السياسية، التي وجدت نفسها في صراع داخلي لتمثيل "المكوّن" الاجتماعي، وكان من الممكن أن تخوض هذا الصراع إلى مديات مفتوحة، لولا التهديدات التي يقترحها الصراع مع "المكوّن" الآخر.
ومع توالي خطوات بناء النظام السياسي الجديد، وأسسه التشريعية والقانونية وهياكل المؤسّسات، كان الصراع الداخلي (بين التيارات السياسية للطائفة والعرق فيما بينها) والصراع الطائفي والعرقي مع الآخر، تسير جنباً إلى جنب مع الصراع مع الإرهاب، وصراع تيارات أخرى مع "الاحتلال"، أو حرب الكلّ مع الكلّ.
في وقتها، كان تحشيد الجمهور العالم كي يتّجه إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات يركّز على الخطاب الطائفي والعرقي، "فالمذهب في خطر"، كما قال أحد السياسيين مرّة، وكان يرى أن هذا الهتاف يكفي لإشعار الجمهور بالمسؤولية السياسية. ... ولكن مفعول التحشيد الطائفي أو العرقي لم يستمرّ طويلاً، خصوصاً مع انتهاء الحرب الضروس ضد الإرهاب، وتراجع الحساسيات الطائفية، وصار الجمهور العام يرغب بشيءٍ أكثر من مجرّد مداعبة الشعور بالتهديد من الآخر المقيم معه في البلد نفسه.
تدخُل غالبية الأحزاب في الدورات الانتخابية ببرامج انتخابية خطابية، لا تتضمّن رؤية أو تصوّراً دقيقاً عمّا تريده من قيادة البلد، فحتى العلمانيين والمدنيين يركّزون في ترويجهم الانتخابي على أنهم "الضد النوعي" للإسلاميين الفاشلين. ولكن، من الذي يضمن أنكم لن تفشلوا مثلهم؟! لا أحد يجيب.
لم يكن لدى غالبية الأحزاب التي اشتركت في السلطة على مدى العشرين سنة الماضية رؤية واضحة عن البرامج التي يمكن اتّباعها لتطوير البلد، ودفعه في مضمار التنمية واللحاق بركب الدول المجاورة على الأقل، فضلاً عن دول العالم المتقدّمة.
في العمق، يمسك النظام السياسي الحالي بدفّة "نظام صدّام حسين"، ولم يقدّم مقترحاً لبديل ناجع عنه. نزل صدام من الدفّة وتسلمها الساسة الحاليون، وليس أكثر من ذلك. ربما كانت هناك تصورات وأفكار عن نظام بديل، ولكن مسار الأحداث منذ 2003 عزّز الضغط على مصادر الدخل الريعية (النفط تحديداً)، من أجل معالجة الأوضاع الطارئة، بسبب الاحتراب الداخلي وتحدّيات الإرهاب وزيادة البطالة والحاجة لدى فئاتٍ واسعةٍ من المجتمع إلى مدخولات مضمونة. وما هو أهم من ذلك كله استخدام المال للتسويات السياسية، وتهدئة الخواطر والتعامل مع الريع النفطي على أنها مغانم وحصص، تتقاسمها الأحزاب فيما بينها. ... وللأسف، ما كان معالجاتٍ في أوضاع طارئة يبدو أنه ترسّخ باعتباره سياسة منتظمة، وبقينا في ركب نظام صدّام الذي كان يعتمد على الريع بشكل أساسي في تحريك الاقتصاد الداخلي.
العراقيون بحاجةٍ إلى تيار سياسي ذي رؤية واضحة تسعى إلى الخروج من السير الكسول في مسارات نظام صدّام نفسه، وأن يطرح برامج مبنيةً على دراساتٍ وإحصائياتٍ وتصوّراتٍ علميةٍ لمسارات تنميةٍ بديلةٍ في بلدٍ يقف على رجل واحدة هي النفط.
الأنموذج الأعلى الذي يرقد في رؤوس كثيرين من الساسة العراقيين هو أنموذج "صدّام السبعينيات"، حيث القبضة الحديدية في يد، وفي يدٍ أخرى استخدام موارد النفط في إحداث تنمية واسعة في البنية التحتية، يلمس أثرها الجميع في وقتٍ وجيز. ولكننا، وللمفارقة، يفترض أن نكون في مسار هو نقيض لمسار نظام صدّام، كما أننا، للأسف، لا نستطيع العودة إلى السبعينيات!