استقطبت الحرب الراهنة التي تشنّها إسرائيل ضد قطاع غزّة على الفور إجماعًا واسعًا في صفوف الرأي العام الإسرائيلي، ربما يعود إلى عدة عوامل وأسباب. من هذه العوامل يمكن الإشارة إلى اثنين مركزيين:
أولًا، تعتبر هذه الحرب "حرب مصالح حزبيّة" أيضًا. ولذا فإن حسابات انتخابية ومصالح ضيقة تجعل الأحزاب الصهيونية كلها في صفّ مؤيديها. يُشار هنا إلى أنه ضمن السياق نفسه تمّ في الماضي شنّ حروب أو عمليات عسكرية عشية انتخاباتٍ عامّة. فمثلًا، قصف رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، مناحيم بيغن، المُفاعل النووي العراقي خلال المعركة الانتخابية عام 1981. وفي 1996 شنّ رئيس الحكومة في ذلك الوقت، شمعون بيرس، عملية "عناقيد الغضب" العسكرية على لبنان، في أوج المعركة الانتخابية، وكان معظم الإسرائيليين متأكّدين من أنه فعل ذلك من أجل الفوز في الانتخابات. ولكن العملية مُنيت بالفشل، وخسر بيريس الانتخابات، وكان الفوز من نصيب رئيس حزب الليكود، بنيامين نتنياهو. وأعاد الكرّة كل من إيهود باراك، وزير الدفاع ورئيس حزب العمل، وتسيبي ليفني، وزيرة الخارجية ورئيسة حزب كديما، خلال الحرب على غزّة عام 2008 - 2009، بدعم من رئيس الحكومة المنتهية ولايته، إيهود أولمرت. وبينما كانت أنظار ليفني وباراك متّجهة إلى الانتخابات العامة التي جرت في 10 فبراير/ شباط 2009، فإن أولمرت هدفَ من الحرب أن تعيد بعضًا من هيبته التي تمرّغت بسبب حرب لبنان الثانية في يوليو/ تموز 2006.
ثانيًا، لا نحتاج إلى عناء كبير كي ندرك أنه منذ أن وضعت حرب 2006 أوزارها يسود في إسرائيل، على المستويات كلها، مناخ عام يوحي للقاصي والداني بأن حربًا إسرائيلية في الأفق غايتها الرئيسية استعادة قوة الردع الإسرائيلية، هي شبه حتمية، وذلك في ضوء نتائج تلك الحرب، واستنتاجات لجنة تقصّي وقائعها (لجنة فينوغراد). ويذكر كثيرون أن هذه اللجنة كُلفت بأن تحقق أو أن تتقصّى الوقائع في تلك الحرب من زاوية شديدة الخصوصية، فحواها لماذا خاضت إسرائيل الحرب وكيف فشلت فيها؟ وهذا يبقى التفويض الأبرز الذي مُنح إلى اللجنة. ولذا، اعتبر مراقبون ومحللون كثيرون المقولة الرئيسية التي صدرت عن هذا التقرير بمثابة الوصفة التي تقدّم للحكومة الإسرائيلية، كي تخوض الحرب المقبلة بموجبها وتدرأ الفشل فيها.
واشتملت استنتاجات هذه اللجنة على خلاصة أساسية، ينبغي العودة إليها، وفيها: "طرحت حرب لبنان الثانية مُجدّدًا على بساط البحث والتفكير مسائل فضَّل المجتمع الإسرائيلي، في جزء منه، إقصاءها وتنحيتها جانبًا، وفي مقدمها ما يلي: لا يمكن لإسرائيل البقاء في هذه المنطقة، ولن تستطيع العيش فيها بسلام أو حتى بهدوء، من دون أن يكون هناك فيها وفي محيطها من يؤمن أن دولة إسرائيل تملك قيادة سياسية وعسكرية، وقدرات عسكرية وقوة ومناعة اجتماعية، بما يمكّنها من ردع كل من تسوّل له نفسه من بين جيرانها المسّ أو إلحاق الأذى بها، ومنعهم، ولو بالقوة، من تحقيق مبتغاهم. وهذه الحقائق غير خاضعة أو مرتبطة بهذا التوجّه السياسي أو ذاك". كما ورد: "صحيحٌ أن إسرائيل ملزمة، سياسيًا وأخلاقيًا، بالتطلّع إلى السلام مع جيرانها والتوصّل إلى التسويات المطلوبة لهذا الغرض، غير أن محاولات تحقيق السلام أو التسوية ينبغي أن تأتي من موقع قوة عسكرية، ومناعة اجتماعية وسياسية، ومن قدرة واستعداد للذود عن الدولة وقيمها وأمن سكانها".
وعلى مستوى الذين يتظاهرون بحمل لقب يسار داخل الرأي العام الإسرائيلي، أثبتت هذه الحرب، مرّة أخرى، أن غالبيّتهم الساحقة هي حمائم تغرّد داخل السرب، لا حمائم ذات قيم كونيّة تتجاوز الإطار المحليّ الضيق. والصنف الذي يعارض الحرب ويؤيد السلام لدوافع أخلاقية عالمية بات صنفًا نادرًا، وهذا الصنف هو الذي لا يبحث عن ملاذٍ في حضن الوطنية العمياء والإجماع الظرفيّ الذي ينشأ إبّان الحروب على وجه التحديد.