لا ينبغي قراءة حجم وأثر القوة العسكرية الغاشمة التي تستخدمها إسرائيل في قطاع غزّة من خلال عدد الضحايا المريع ومستوى الدمار الهائل الذي تُحدثه فحسب، بل لا بد من أن نأخذ في اعتبارنا، أيضاً، قدرة الفلسطينيين في القطاع المنكوب على الاحتمال الكبير، فضلاً عن الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، وتمكّنها، بعد 85 يوماً من العدوان، من التصدّي لإسرائيل، بل وإدمائها. هذا لا يعني، أبداً، التقليل من حجم الكارثة التي حلّت، ولا تزال، بقطاع غزّة وسكّانه، كما لا يعني الاستهانة بقوة إسرائيل العسكرية وتحالفاتها الدولية العميقة، لكن من دون أن يُعمينا ذلك عن هشاشة المشروع الصهيوني وقابليته للاندحار، حتى في ضوء وجود ظهير دولي له تمثل الولايات المتحدة مركزه الأساس. ومن ثمَّ، لا بد من البحث عن المنطقة الوسط ما بين الوهم والإمكان، وشروط تحقّق ذلك الإمكان، بحيث لا نُفرط في الأمل، ولا نُصاب أيضا فيه باليأس والإحباط.
تعيننا عدة تقارير استقصائية دولية على تحقيق التوازن في مقاربتنا وفهمنا للفاجعة في قطاع غزّة. مثلاً، ينقل تحقيق أجرته محطة سي أن أن الأميركية، الأسبوع الماضي، عن خبراء قولهم إن كثافة القصف الإسرائيلي على قطاع في الشهر الأول من العدوان لم يشهدها العالم منذ حرب فيتنام، بل منذ الحرب العالمية الثانية. وحسب تقرير للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، صدر الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، فإن إسرائيل أسقطت أكثر من 25 ألف طن من المتفجّرات على قطاع غزّة في الشهر الأول من العدوان، وهو ما يزيد على وزن القنبلتين النوويتين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على المدينتين اليابانيتين، هيروشيما وناغازاكي، في نهاية الحرب العالمية الثانية، عام 1945، واللتيْن قدّر وزنهما مجتمعتين بحوالي 20 ألف طن. وحسب خبراء، فإن أطنان المتفجرات التي أسقطت على القطاع المكتظ بالسكان المدنيين تفوق في قدرتها التدميرية القنبلتين النوويتين في اليابان، مع فوارق واضحة. إذ إن حجم هيروشيما يتجاوز 900 كيلومتر مربع، وحجم ناغازاكي يتجاوز 400 كيلومتر مربع. أما حجم قطاع غزّة فلا يزيد عن 360 كيلومترا مربعا.
أدّى القصف الإسرائيلي على مختلف مناطق القطاع إلى تدمير 177 ألف وحدة سكنية بين 7 و29 أكتوبر/ تشرين الأول
تقرير آخر لصحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وجد أن حجم الخراب والدمار الذي ألحقته إسرائيل بقطاع غزّة خلال شهرين من العدوان يفوق، في أحيان كثيرة، غارات الحلفاء على مدن هامبورغ وبولونيا ودريسدن الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية. وحسب التقرير، قصفت قوات الحلفاء هذه المدن الثلاث بين عامي 1943 – 1945 بـ7100 طن من المتفجرات، موقعة 25 ألفاً من سكانها المدنيين قتلى. قارن ذلك بحوالي 60 ألف طن من المتفجّرات قصف بها قطاع غزة في نحو 80 يوما، أودت بحياة أكثر من 21 ألفاً من سكانه في أقل من ثلاثة أشهر، دع عنك عشرات الآلاف من الجرحى. وخلص تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، أواخر الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، إلى أن "وتيرة الموت" في العدوان الذي تشنه إسرائيل على قطاع غزّة ليس له سوابق في هذا القرن. مثلاً، يفيد التقرير بأن عدد من سقط من النساء والأطفال شهداء في قطاع غزّة خلال أسابيع قليلة يفوق مثيلهم في أوكرانيا خلال عامين تقريباً، وهو أكبر ممن قتلتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها في العراق خلال عام من غزو ذلك البلد عام 2003. دع عنك أن روسيا دمّرت خلال عامين، تقريباً، 167 ألف منزل في أوكرانيا، في حين أدّى القصف الإسرائيلي على مختلف مناطق القطاع إلى تدمير 177 ألف وحدة سكنية بين 7 و29 أكتوبر/ تشرين الأول. أما الواقع اليوم، بعد ثلاثة أشهر تقريباً من العدوان، فهو أفظع بكثير، إذ تكاد البنية التحتية في القطاع المنكوب تكون قد دُمّرت عن بكرة أبيها.
الولايات المتحدة هي التي تزوّد إسرائيل بأغلب القنابل الكبيرة، بما في ذلك التي يصل وزنها إلى ألفي رطل
لا يمكن إلقاء اللوم هنا على الهمجية الإسرائيلية فحسب، بل إن ما يجري دليل على الهمجية الغربية، وتحديداً الأميركية، إذا عدنا إلى تقرير "سي أن أن"، فإن الولايات المتحدة هي التي تزوّد إسرائيل بأغلب القنابل الكبيرة، بما في ذلك التي يصل وزنها إلى ألفي رطل (900 كيلوغرام) من المتفجّرات. وحسب التقرير، فإن ما بين 40 – 45% من ذخائر جو – أرض التي تم إسقاطها على غزّة بواقع 29 ألف طن، إلى حدود منتصف الشهر الجاري، تصنف على أنها "قنابل غبية"، وهي ذخائر غير موجهة يمكن أن تشكل تهديداً أكبر للمدنيين، خصوصا في المناطق المكتظة بالسكان مثل قطاع غزّة. ويذكر التقرير أن واشنطن زوّدت تل أبيب، منذ 7 أكتوبر، بأكثر من 5400 من القنابل الثقيلة من طراز MK-84، التي سحقت بها إسرائيل قطاع غزّة، في الوقت الذي يرفع الرئيس الأميركي جو بايدن عقيرته متذمّراً من "القصف العشوائي" الذي تقوم به إسرائيل ويتسبب في سقوط مئات الضحايا المدنيين الفلسطينيين! ومن الضرورة بمكان هنا أن نبقي في أذهاننا أن الولايات المتحدة، وإن كانت أكبر مزود لإسرائيل بالسلاح الفتاك، إلا أنها ليست الوحيدة، فهناك بريطانيا وألمانيا وغيرهما.
يوضح ما سبق جانباً من القوة الغاشمة التي توظفها إسرائيل، في ظلّ حصانة أميركية مطلقة، لكسر إرادة الشعب الفلسطيني. لكن، ما نراه بعد 85 يوماً من الإجرام الإسرائيلي غير المسبوق، كما سبقت الإشارة منذ الحرب العالمية الثانية وفيتنام، هو أن الشعب في قطاع غزة الذي تقطعت به السبل، وخذل من القريب قبل البعيد، ما زال صامداً رغم آلامه وأحزانه. أيضاً، ما زالت إسرائيل عاجزة إلى اليوم عن بسط نفوذها على قطاع غزّة كاملاً، رغم أنها اجتاحت كثيراً من مناطقه برّياً منذ أسابيع. وفي حين أفرغ الجيش الإسرائيلي مخازنه من الأسلحة والذخائر مرات عدة، وهو يعتمد في تعويضها على جسور الإمداد الجوي والبحري الأميركية والبريطانية والألمانية وغيرها، فإن المقاومة الفلسطينية التي تقبع تحت حصار شديد منذ 17 عاماً، وليس لها ظهير إقليمي متصل بها جغرافياً، ما زالت مستمرّة في الإثخان فيه وتكبيده خسائر باهظة. ويخيّل للمتابع لما يجري في قطاع غزّة اليوم وكأن هذه معركة بين ندّين عسكريين، رغم أن تفاوت القوة والإمكانات بينهما هائل. ولولا لجوء إسرائيل لسلاح الجبان، والمتمثل في استهداف المدنيين والبنى التحتية، لكان المشهد العسكري جدَّ قاتم بالنسبة لها.
الأدلة تفيد بأن إسرائيل تخفي خسائرها الحقيقية، وهي ما زالت تقاتل وحيدة بعد 85 يوماً
تمكّنت إسرائيل في عام 1967 من هزيمة ثلاثة جيوش عربية، مصر وسورية والأردن، واحتلال أضعاف مساحتها في ستة أيام فقط. حينها عبأت تل أبيب 264.000 جندي، وسقط لها ما بين 776 – 983 عسكرياً قتيلاً، وجرح حوالي 4500. اليوم، تكاد المقاومة الفلسطينية المحاصرة تكون قد أوقعت قريباً من هذه الأعداد في صفوف الجيش الإسرائيلي (عبّأ أكثر من 360.000 جندي لمحاربة فصائل المقاومة في قطاع غزّة)، مع أن الأدلة تفيد بأن إسرائيل تخفي خسائرها الحقيقية، وهي ما زالت تقاتل وحيدة بعد 85 يوماً. لم يكن العيب في الجندي العربي في معارك 1948 و1967، وغيرهما من المعارك التي هزم فيها أمام إسرائيل، إنما كان في القيادات العسكرية والأنظمة العربية التي لم توفر له الروح المعنوية والعقيدة القتالية الوطنية والدينية. في حرب فيتنام (1955 – 1975)، تكبّد الفيتناميون خسائر بشرية باهظة، قتل الملايين منهم، ودمّرت بلادهم، في حين قتل من الأميركيين نحو 58 ألف جندي، واضطروا إلى الانسحاب من دون تحقيق أي من أهدافهم العسكرية والسياسية. لم يكن الفيتناميون وحيدين في ساحة المعركة، إذ كان الاتحاد السوفييتي والصين، ودول شيوعية أخرى، يمدّونهم بالسلاح والعتاد والمقاتلين.
تُرى، كيف كان سيكون الحال لو كان للشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزّة عمق عربي وإسلامي حقيقي؟ أو على الأقل، كيف كان سيكون الحال لو كان بعض هذا العمق لا يتآمر عليهم، أي أنه لا يكتفي بخذلانهم؟ حتى لا نكون واهمين، نعلم أن ثمَّة موازين قوى مختلّة في المحصلة، لكن إيمان الشعب الفلسطيني ومعنوياته، وبسالة مقاومته وحسن تخطيطها وتدبيرها في قطاع غزّة أمور لا بد أن تؤخذ في حسبان ميزان القوى واعتباراته. وحتى إن انكسر شعب غزّة ومقاومته، لا قدر الله، فلا عار عليهم، بل العار من نصيب من خذلهم وتخلّى عنهم وتآمر عليهم.