حرب الإسناد التي شنّها حزب الله منذ اليوم الثاني من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة دعماً لحركة حماس تحوّلت، في الفترة الأخيرة، إلى حربٍ حقيقية لها دينامية خاصة مستقلة مدمّرة وعنيفة وشرسة، مرفقة بحملة من التهديدات الإسرائيلية شبه اليومية بإمكانية تطوّرها إلى حربٍ شاملة.
كانت نقطة انطلاق عمليات حزب الله في الجنوب ضد الجيش الإسرائيلي هي فرضية وحدة الساحات التي تنادي بها المقاومة، والهدف منها "إشغال" العدو على الجبهة الشمالية وإجباره على توزيع قواته على أكثر من جبهة، بهدف تخفيف الضغط العسكري الإسرائيلي على حركة حماس، مع حرص الحزب على الالتزام بقواعد الاشتباك، ومنع تمدد المواجهات خارج نطاق جغرافي ضيق متاخم للحدود. لكن الراهن اليوم أن القتال الدائر في الجنوب منذ أكثر من شهرين ونصف الشهر، ومثله هجمات الحوثيين من اليمن في البحر الأحمر، أو إطلاق الصواريخ والمسيّرات على إسرائيل أو هجمات المليشيات الموالية لإيران على القوات الأميركية المتمركزة في العراق وفي سورية، لم يغيّر هذا كله شيئاً في مسار حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على القطاع، ولم تؤدّ هذه الهجمات إلى إجبار إسرائيل على التفكير بوقف إطلاق النار، أو البحث في إنهاء القتال في وقت قريب.
تستغلّ إسرائيل المواجهات في جنوب لبنان، لتدمير أكبر عدد ممكن من مواقع الحزب بالقرب من الخط الأزرق
ويجب الاعتراف اليوم بأن حرب الإسناد التي يخوضها حزب الله على الحدود لم تخفّف ولو قليلاً من العبء العسكري الذي تتحمّله وحدها "حماس". بل على العكس، أحدثت واقعاً أمنياً خطراً وينذر بالأسوأ، إذ تستغل إسرائيل المواجهات في جنوب لبنان، لتدمير أكبر عدد ممكن من مواقع الحزب بالقرب من الخط الأزرق، وقتل أكبر عدد ممكن من مقاتليه الذين بلغ عددهم 150 شهيداً، ناهيك بالضحايا من المدنيين اللبنانيين (أخيرا، عريس مع عروسه في بنت جبيل كانا يتهيآن للسفر إلى أستراليا)، وتهجير آلاف اللبنانيين من سكان القرى المتاخمة للحدود، إلى جانب أضرار بالمنازل والممتلكات. وهذا ثمنٌ باهظ يتكبّده مقاتلو الحزب في هذه الحرب، ويدفع ثمنه اللبنانيون، حتى لو أنه لم يخفف ولو قليلاً من ضراوة الحرب الدائرة في غزّة، وعلى الرغم من محاولات إيران توظيف ما يجري في جنوب لبنان في إطار صراعها مع إسرائيل، فالدماء التي سالت لبنانية وتضحيات أهالي الجنوب كبيرة، سيما في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه لبنان من انهيار اقتصادي ومالي وغياب كامل للدولة.
وصلت هذه المواجهات إلى مرحلة مفصلية في ضوء إعلان مسؤولي إسرائيل، نهاراً ومساء، أنها لم تعد تقبل باستمرار الوضع الذي كان سائداً قبل 7 أكتوبر في الشمال، أي الوجود المسلح لحزب الله بمحاذاة الحدود وعلى بعد كيلومترات قليلة من مستوطناتها الشمالية. وتطرح خيارين لا ثالث لهما، الانسحاب الطوعي لحزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني وتطبيق قرار مجلس الأمن 1701 الذي أنهى حرب تموز 2006، أو إجبار الحزب على الانسحاب باستخدام القوة العسكرية.
حزب الله حالياً القوة العسكرية الوحيدة الفاعلة على الأرض، ليس في جنوب لبنان فحسب، بل في لبنان كله
وتبدو مطالبة إسرائيل بانسحاب حزب الله ونزع سلاحه من المنطقة المتاخمة للحدود وفرض انسحاب الحزب بالقوة هدفاً مستحيل التحقيق، تماماً مثل الذي وضعته للحرب على غزّة، أي إنهاء "حماس". وعندما تطالب إسرائيل بذلك، فهي تتجاهل الوقائع أو تخفي وراء هذه المطالبة أمراً آخر تحضر له في جنوب لبنان لتغيير الوضع برمّته في المنطقة المحاذية لمستوطناتها الشمالية. والسؤال: إذا كان الجيش الإسرائيلي الموجود حالياً في شمال غزّة ووسطها لم ولن ينجح في تحقيق هدف نزع سلاح "حماس"، على الرغم من ادّعائه تفكيك بناها العسكرية، فكيف يأمل، والحال هذه، بنزع سلاح حزب الله وإخراجه من منطقة وبيئة هو متجذّر فيها، ويشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي هناك؟ وما هي القوة العسكرية التي تستطيع أن تراقب تطبيق بنود القرار 1701، وتتأكّد من نزع سلاح حزب الله؟ هل هو الجيش اللبناني غير القادر بتاتاً على مثل هذه المهمة الشائكة التي تضعه وجهاً لوجه ضد حزب الله الذي يفوقه قدرة عسكرية، أم قوات الأمم المتحدة "يونيفيل" التي أثبتت السنوات الماضية من عملها عجزها الكامل، حتى عن دخول مناطق تقع ضمن نطاق صلاحيتها؟ من هنا، يبدو الحديث الإسرائيلي عن فرض انسحاب مقاتلي الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني أو نزع سلاحه في هذه المنطقة هذياناً مطلقاً منقطعاً عن الواقع الفعلي.
حزب الله حالياً القوة العسكرية الوحيدة الفاعلة على الأرض، ليس في جنوب لبنان فحسب، بل في لبنان كله، وليس هناك طرف أو جهة تستطيع أن تفرض عليه إرادتها. ولقد بنى مواقعه العسكرية بالقرب من الحدود طوال سنوات وتحت نظر الجيش الإسرائيلي الذي لم يحرّك ساكناً اعتقاداً منه أن الحزب مرتدع، ولن يبادر إلى مهاجمة إسرائيل.
والتخوّف هو من أن يشكّل استمرار القتال في غزّة ذريعةً لحرب استنزافٍ إسرائيليةٍ طويلة الأمد ضد حزب الله وضد سكّان الجنوب اللبناني، تبقى على حافّة الحرب من دون الانزلاق إلى الحرب الشاملة، لكنها لا تقلّ شراسةً وتدميراً منها.