منذ بدأت أحداث طوفان الأقصى، طرح هذا السؤال كثيرا في المجتمع الصهيوني؛ وحاول كثيرون الإجابة عنه، لكن أغلب إجاباتهم انشغلت بحصر أوجه التقصير التي وقعت فيها أجهزة الاحتلال، والأخطاء التي ارتكبها القادة السياسيون والعسكريون ورجال الاستخبارات. ولم يبذل أغلب المحللين هناك جهدهم في البحث في معتقدات حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وباقي حركات المقاومة الفلسطينية بالطبع، وفلسفتها، وقناعاتها، ورؤيتها لمستقبل الصراع، وتأثير ذلك كله في إمكانية أن تتّخذ الحركة قرارا يبدو خارج حدود العقل، وغير متقيّد بحدود الإمكانات المادّية.
كان أغلب الطرح الذي يتناول الحركة ينطلق من حساباتها السياسية وبنيتها العسكرية، من دون التفكير في مرجعيات هذه السياسات، ليعرف حجم الثابت فيها والمتغيّر. صحيح أن دراسات إسرائيلية كثيرة صدرت عن الحركة منذ تأسّست مع الانتفاضة الأولى 1987، لكنها كانت قراءات ذات طبيعة استخبارية، تهتم بقراءة بنود ميثاق تأسيسها، والتعامل مع أدبياتها؛ من مقالات، وخطب وتصريحات، من أجل وصمها بالإرهاب، ورسم صورة ذهنية مخيفة عنها، تبرّر من خلالها أي استهداف عسكري لها ولحاضنتها. من ذلك مثلا ما أصدره مركز علوم الاستخبارات والإرهاب في عام 2006 عن تحليل ميثاق الحركة، ثم في عام 2010 حول إدارة "حماس" قطاع غزّة، وطبيعته بوصفه تهديدا إرهابيا، وكان ذلك في سياق متابعة نتائج الاعتداء الصهيوني على غزّة في عملية الرصاص المصبوب في 2008.
أما التناول الفكري لها، فكان بعيون أجنبية غربية، تطبق على "حماس" وسائر حركات المقاومة الفلسطينية، المتشبّعة بروح الجهاد، نظريات السياسة الواقعية الغربية التي تنطلق من أن القدرة على التغيير تتم عبر الوسائل المادية بالأساس، ومن قناعاتٍ بإمكانية تغيير وعي هذه الحركات، وتطويعها عبر الوسائل والضغوط الاقتصادية، رغم تجارب فاشلة سابقة مرّت بها الولايات المتحدة، راعية المشروع الصهيوني منذ نشأته، في العراق وأفغانستان، وهي تجارب، بدأت بتفاؤل كبير، وانتهت بالهزيمة والانسحاب، وهو ما أظهر عدم إمكانية تطبيق هذه النظريات في كل البيئات، وفشلها في أغلب الأحيان.
رؤية خاطئة في سياق علاقة حماس بالإخوان المسلمين، يعتقد أصحابُها أن الاحتلال هو من سمح لها بالوجود لإيجاد توازن ضد منظمة التحرير الفلسطينية
وقد تنطلق القراءة من رؤية استشراقية قاصرة، كذلك الكلام الذي قاله أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة بار إيلان، مردخاي كيدار، في أحد البرامج التليفزيونية تعليقا على القتال الدائر في غزّة حاليا، وخسائر الجيش الصهيوني، حيث ركّز على عقيدة الصبر عند المقاتلين الفلسطينيين، وقدرتهم على التحمّل، واستعدادهم للتضحية بخلاف الجنود الصهاينة. وعلى الرغم من صحّة هذا الكلام، لكنه يظل سطحيا؛ إذ كان منصبّا على الفعل القتالي من دون الفعل الأخلاقي، والأكثر من ذلك أنه، أي كيدار، في مناسبة أخرى، نسي أنه أكاديمي، وتحدّث عن المقاومين بوصفهم أسوأ من الحيوانات، وهو ما يعكس طبيعة عنصرية يصعب أن تصل إلى نتائج صحيحة لفهم الحركة.
يمتدّ الفهم الخاطئ أيضا عند الحديث عن "حماس" في علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين، والقول إنها نشأت من رحم الحركة الأم التي أرادت تصحيح مسار التحرك الفلسطيني ضد الاحتلال بتحويله من مجرّد ثورة شعبية إلى جهاد ديني، مثلما يتصوّر الكاتب في موقع "ناشيونال رفيو"، أندرو مكارثي، للإيحاء بأن "حماس" لم تنشأ بدافعية فلسطينية ذاتية. يؤكّد على ذلك ما افترضه مكارثي بأنه لو جرى تفكيك الحركة غدا، وهي فرضية استبعد حدوثها عبر العملية العسكرية التي تقوم بها إسرائيل، فإن الإخوان المسلمين سينشئون في اليوم التالي مباشرة حركة حماس الثانية. وهي نظرة أقل ما يقال عنها إنها تعبر، ليس عن رؤية ساذجة فحسب، بل عن عقلية أكثر سذاجة، تنظر إلى "حماس" وكأنها غريبة على النسيج الفلسطيني، ولا تعي أنها تمكّنت، على عكس الحركة الأم، من تجاوز قيود الأيديولوجيا، فأصبحت مُلكا لأمةٍ كاملةٍ تتنوع أطيافها.
ثمّة رؤية خاطئة أخرى، في سياق علاقة الحركة بالإخوان المسلمين، يعتقد أصحابها أن الاحتلال هو من سمح لها بالوجود لإيجاد توازن ضد منظمة التحرير الفلسطينية، العدو المركزي لإسرائيل حينها. ويبني هؤلاء فرضيتهم على أساس أن "الإخوان المسلمين"، في نظر الأجهزة الصهيونية، كانت أقل خطرا من الفصائل الفلسطينية، على أساس تركيزها على الإيمان والعمل التطوعي. لكن رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان في جامعة تل أبيب، ميخائيل ميلشطاين، يعتبر هذه الفرضية من الأساطير التي تروج ضد "حماس"، وأن جماعة الإخوان في فلسطين كانت مصدر قلق للسلطات الصهيونية منذ منتصف الثمانينيات، أي قبل نشأة "حماس" بعامين.
ازدادت الفجوة في فهم "حماس"، خلال العامين ونصف العام الأخيرين، اتساعا؛ حيث تحرّكت دولة الاحتلال على هذا الأساس
في مقابل تلك القراءات القاصرة، يقدّم ميلشطاين رؤية هادئة، وإنْ لم تخلُ من قصور، نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت في 24 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، حاول فيها وضع تصور للأسباب التي أوقعت الكيان الصهيوني في أخطاء فهم حركة حماس؛ يقول فيها إن الغرب، وإسرائيل جزءٌ منه، يعاني في العقود الأخيرة من فجوة إدراكية حادّة في التعامل مع الشرق الأوسط؛ فبينما ينطلق اللاعبون الأساسيون في المنطقة من عاطفة أيديولوجية دينية في الغالب، فإن الرؤية الغربية/ الإسرائيلية، على عكس ذلك، تقوم على عقلانية مادّية، ومن ثم تظل الفجوة كبيرة في فهم الحركة. وطوال 36 عاما، هي أمد الصراع بين الكيان الصهيوني و"حماس"، والذي وصل إلى ذروته في الأحداث الأخيرة، استمرّت إسرائيل في إسقاط منطقها غير الصحيح عليها، فظنّت أن لدى الحركة رغبة إنسانية عالمية في حياة طيبة، كما أن إسرائيل لم تدرك صعوبة فهم مجتمع لديه رؤى مختلفة عن مفاهيم الزمن والحياة والنظرة "إلى الآخر". ويضيف ميلشطاين أن الأسئلة التي كانت مثارة حول حركة حماس في الكيان الصهيوني، خلال الثلاثة عقود ونصف العقد الماضية، تكشف عن فجوات ثقافية عميقة؛ وهي أسئلة من نوعية: هل الحديث عن تنظيم إرهابي، أم حزب سياسي، أم حركة اجتماعية؟ وأي التصنيفين يغلب عليها أكثر؛ الفلسطيني، أم الإسلامي؟ وهل هناك فارق بين حماس السياسية والعسكرية، أم أن هذا التمييز أنشأته الحركة بقصد الخداع؟
تفاقم القصور في التصوّر، مع هذه الفجوات، أكثر منذ وصول "حماس" إلى السلطة عام 2006، والذي اعتبره كثيرون في الكيان محطّة تطور ستجعلها أكثر مرونة فكريا وعمليا. وينبع هذا الفهم من افتراض أن العناصر المتشدّدة التي تصل إلى السلطة تتحوّل تدريجيا نحو الاعتدال في مواجهة الضرورات. ولذلك، ازدادت الفجوة في فهم "حماس"، خلال العامين ونصف العام الأخيرين، اتساعا؛ حيث تحرّكت دولة الاحتلال على هذا الأساس؛ فسمحت للعمّال من قطاع غزّة بالعمل في الكيان لتحسين نسيج الحياة في القطاع، وأن يؤدّي ذلك إلى ضخّ الأموال، وتعزيز بعض الأعمال المدنية، بحيث يكون لدى حماس ما تخشى خسارته، وأن يمثل ضغطا شعبيا عليها يمنعها من التصعيد. لكن وكما علمنا التاريخ، والكلام لميلشطاين، قد تتصرّف بعض هذه العناصر أحيانا بشكل معاكس؛ إذ يصبح الصعود إلى السلطة، وجمع الموارد مجرّد وسائل من أجل تحقيق الرؤية الفكرية.
من الناحية العملية، وطبقا لميلشطاين، كانت هناك حالات كثيرة كان يفترض أن تنبّه إلى أن المفهوم الذي انطلقت إسرائيل منه كان خطأ من أساسه؛ كتحريض "حماس" على المقاومة في الضفة الغربية والقدس ومشاركتها فيها، واستغلالها التحاق عمال غزّة بالعمل داخل الكيان لجمع معلومات استخبارية وتهريب أسلحة، لكن ذلك كله لم يوقف مسار الفهم الخاطئ، فتطوّر الخطأ نحو اعتقاد بأن مهندس الحرب الحالية، يحيى السنوار، تحول لشخص أخروي التفكير، وأنه مقطوع الصلة عن الواقع.
الظنّ أن لا رغبة لدى حركة حماس، وباقي حركات المقاومة، في حياة طيبة، وأنها غير منشغلة برفاهية شعبها، تصوّر غير صحيح
كان هجوم 7 أكتوبر التعبير القاسي، والأكثر إيلاما للأزمة الإسرائيلية في فهم "حماس". ومع ذلك، يواصل من تبقى ممن وقعوا في هذه الأخطاء أخطاءهم، والظن بأن ما قامت به الحركة في 7 أكتوبر كان بهدف الإضرار بالتطبيع بين الكيان والسعودية، وهو أمرٌ يكشف عن عمق الفشل في فهم الحركة، لأن الجهاد نفسه هو الموضوع، وأساسُه تقويض الكيان خطوة على طريق تدميره. ويقول ميلشطاين إن الهجوم الذي نفّذه السنوار كان مشروع حياته. وعلى هذا الأساس، للدراسات السياسية الواقعية "الآنية" وزن هامشي في تنفيذه خطته، فهو شخصٌ يحيا في البعد الزمني للآخرة، ومع ذلك، الزعم أنه منفصل عن الواقع ليس صحيحا مطلقا. وبدلا من محاولة فهم منظومة القيم الخاصة به، التي تمثل واقعية مختلفة، مال كثيرون في الكيان، وفي مقدّمتهم المنخرطون في المنظومة الحاكمة، والجيش، والاستخبارات، والإعلام، إلى إسقاط منطقهم عليه، وافترضوا أن بإمكانهم فهم جماعة أجنبية وتقدير منطقها من دون الإلمام بثقافتها، وهو أمرٌ يشبه من يلعب الشطرنج ضد نفسه.
تبدو إذا قراءة ميلشطاين أكثر هدوءا، لكنها رغم ذلك لا تخلو من قصور؛ فالظنّ أن لا رغبة لدى حركة حماس، وباقي حركات المقاومة، في حياة طيبة، وأنها غير منشغلة برفاهية شعبها، تصوّر غير صحيح، وثمّة فارق كبير بين الرغبة في الرفاهية وأن تصبح الرفاهية معوقا عن التحرير، أو أن تؤدّي إلى تغير الأيديولوجيات وتآكل فكرة المقاومة.
لقد انبنى الخطأ الذي وقعت فيه أجهزة الاحتلال، وكل مثقفيه في التعامل مع حركة حماس على فهم خاطئ لثقافتها، ورؤيتها المستقبلية، وبنيتها الفكرية، وتاريخها النضالي، وتضحياتها الممتدّة، والظن بإمكانية أن تنحرف بوصلتها بناء على مكاسب محدودة، ولا يبدو أن الكيان يمكن أن يتوقّف عن منهجيّته في التفكير الخاطئ.