صحيفة الوطن، الموالية لبشّار الأسد: مانشيت عريض لـ"مسؤولين" يزورون البطريركية الأرمنية للتهنئة بعيد الميلاد الشرقي، وتحته صورتان كبيرتان للأسد بعدما "أصدر" مشاريع قوانين إصلاح إداري وتنظيم عمل الاتحاد الوطني لطلبة سورية. ومن بعدها، صلوات وقداديس أيضا لعيد الميلاد الأرثوذكسي ودعوات محبّة، وأخبار "محلية" عن هجمات "النصرة"، و"أنشطة اتحاد الفلاحين" والتكاليف الباهظة للامتحانات، ومقالات رأي عن المشكلة الاقتصادية، وخطَط السعادة وقارئة الفنجان... وكخبر متوسّط، في الأسفل، عن رد حزب الله على اغتيال صالح العاروري، و"انتصاراته" ضد إسرائيل. ومن بعده، ستة أخبار "دولية عربية": اثنان منها عن الحرب الدائرة في غزّة. وواحد تكرار لـ"انتصارات" حزب الله.
موقع "عنب بلدي" المعارض يختلف من حيث المضامين، ولكنه ينسجم مع العناوين. مشغول بزيادة سعر البنزين، بدرعا والقصف عليها، بمخيّم الهول في الحسَكة، بالاشتباكات على الحدود مع الأردن، بالكهرباء التي لا قطع غيار لها، بالنفايات في مدينة إدلب، بقصف إدلب بصواريخ النظام. ومقالات الرأي ثلاثة: عنوان الأول "لقطات العالم الرياضي"، والثاني عن اللجوء السوري في لبنان، والثالث عن الشبّيح وتقلباته. وفي الآخر، أخبار غزّة ثلاثة وحسب، وذات عناوين قريبة إلى العمومية. أي أنه يمكنك أن تجد تفاصيل أكثر جدّية منها في أية صحيفة أجنبية غير متخصّصة بالشأن الفلسطيني.
أما التقرير السنوي الذي أعدّه خبيران في الموقع نفسه، وعنوانه "2024 ماذا يحمل لسوريا؟"، فيتناول كل ما حصل في العام الماضي في سورية من أحداث جديرة بالتوقف: الملف الاقتصادي، الغلاء والتضخم والفقر، زلزال 6 شباط، توقّف مسار التقارب السوري التركي واحتمالات عودته، الانفتاح العربي على بشّار الأسد، والشروط التي لم ينفذها: المخدّرات، اللاجئون، النفوذ الإيراني. وتوقف مفاوضات أستانة بعد عشرين جولة، وانتفاضة محافظة السويداء ضد بشّار الأسد، وحملة "تحرير الشام"، ضد العملاء والجواسيس، وانشقاقات في داخلها، ومواجهات مسلحة بين "قسد" الكردية وعشائر تسمّي نفسها "مجلس دير الزور العسكري".... كل هذا الحشد من أحداث العام الماضي، ولا كلمة واحدة عن الحرب على غزّة.
الحرب على غزّة القريبة تبدو وكأنها حاصلة في ديار بعيدة عن سورية، رغم تماسّها المباشر معها
القصد من هذا العرض الموجز أن الحرب الراهنة ليست حاضرةً تماماً في أذهان السوريين، معارضة وموالاة، كما هي حاضرة في لبنان أو الأردن أو فلسطين نفسها... ناهيك بالعالم أجمع. حتى أصحاب الرأي من السوريين، خصوصاً المعارضين منهم والمهجّرين من بلادهم، تجدهم يكتبون عنها، ولكن بنفس خاص. بعضُهم مثلاً لا يشبه المرحلة: يستخدم عبارات تقليدية تقدّمية، ولا يبدو أن رأيه تطور، أو تعدّل بعد خفوت هذه العبارات. مثل آخر، كاتب يعتمد زاوية حيوية، وهي المقارنة بين وحشية الأسد بحقّ السوريين ووحشية إسرائيل بحق الفلسطينيين. ولكن فكرته تستحق الذهاب بها إلى مدى أبعد من ذلك، ولا تبقى عنواناً عريضاً.
الحرب على غزّة القريبة تبدو وكأنها حاصلة في ديار بعيدة عنها، رغم تماسّها المباشر معها. تعطي سورية انطباعا بأنها غير مبالية، عائشة في فقّاعة، مغلقة على نفسها، لا تؤثر عليها أحداث محيطها، في نوع خاص من الغيبوبة عن حدثٍ هو في صميم عقيدتها: سورية "قلب العروبة النابض"، التي كانت ممسكة بقضية فلسطين، وبأصحابها، وبالسجن الرهيب الذي يحمل اسمها، والذي كان يُدكّ فيه الفلسطينيون "الخونة، المتخاذلون"، العاصون لها. "قلعة العروبة"، التي استرزقت طوال عقود من "الكنز" الفلسطيني، مثل نبتة طفيليّة، ها هي غائبة عن أهم حدث فلسطيني بعد النكبة، سوف يغيّر وجهها ووجه المنطقة. والأصعب أن أحد أنشط أطراف الحرب في غزّة، هو مثل الأسد، من صميم محوره الممانع، صاحب "وحدة الساحات" ضد إسرائيل.
يحتاج بشّار الأسد إلى درجة عالية من التبصّر لكي لا تطيحه تلك التشكيلة من الاحتلالات، التي أحالت "السيادة الوطنية" إلى قاموس الغرائب
أين عقل سورية الآن؟ أو، أين أرض سورية؟ لم تَعُد سورية مالكة قرارها. أو على الأقل حاكمها بشّار لم يحفظ إرث أبيه بالإمساك بالخيوط الضامنة لبقائه. أصبحت خارجة عنه، لأنها واقعة تحت أنواع من الاحتلالات تتعامل مع هذا الإرث لحسابها الخاص، أو تبتدع بدلاً منه. فيما فلسطين تحتلّها إسرائيل، ولبنان تحتلّه المليشيات الإيرانية، هل نحتاج إلى إعادة التذكير بمحتلّي سورية؟
الاحتلال الإيراني ذو الأشكال الأكثر تنوّعا من غيره: الحرس الثوري، ومليشيات إيرانية، أنجحها حزب الله، ووظيفتها الدفاع عن كرسيه. يليه الروسي ذو القواعد المبهمة الذي أنقذ بشّار من عجز مليشيات إيران في وقف زحف الثورة عليه. وقد انشغل أخيرا بقصف إدلب بالطائرات. ثم إسرائيل التي لا تكتفي باحتلال هضبة الجولان، فتُغير دورياً على مطارَي حلب ودمشق، وثكنات وذخائر إيرانية. وجديد "إنجازاتها" أخيرا اغتيال المسؤول الرفيع في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي. ومقابل هضبة الجولان في الجانب السوري، ترى في هذه الأيام أيضا حشوداً مليشياوية إيرانية، تحاول أن تقوم بما لا نعلمه تماماً، أو أنها لا تريد أن نعلم. ثم الأردن. لا تنسَ الحدود الأردنية، حيث لم تتوقف الاشتباكات بين الجيش الأردني ومهرّبي المخدّرات من جماعة الأسد وشركائه من حزب الله... وذروة عمليات التهريب حصلت منذ أيام، عندما أغارت الطائرات الأردنية على المهرّبين. وتركيا في الشمال، وأولويتها الأكراد. تليهم "جيوش" المعارضة، على حدودها الجنوبية، المنشقّة والمتفقة، ومشاريع تبديل سكاني للاجئين... والأميركيون وقواعدهم على الحدود مع العراق، الوحيدون الذين أعلنوا عن عدد جنودهم: تسعمائة جندي أميركي، في التنف، في ريف حمص، والشدادي في ريف الحسكة، وعملياته، أخيرا، ضد "المقاومة الإسلامية"، وهي مليشيات إيرانية، عراقية سورية لبنانية.
لم تَعد سورية مالكة قرارها، أو على الأقل حاكمها بشّار لم يحفظ إرث أبيه بالإمساك بالخيوط الضامنة لبقائه
متصدّع. كيان متصدّع. لم يعُد يملك الطاقة ليسيطر على اللعبة الإقليمية. حساباتُه صارت خارج فلسطين. واقعه أيضاً. بين ضرورات الاستمرار على قيد الحياة، خارج سورية وداخلها، وبين هذا التشتت في القضايا، في تنوّع معالمها، في تناقضاتها، في التعقيد الذي تضعه على أي محاولة لوضع منهج أو تصوّر للتعامل معها... تضيع سورية وتتشقّق. كأنها لم تعد بلداً، أو دولة. صارت موزاييك من الجماعات أو الجيوش أو الدول، لكل منها حساباتها، لا تدخل سورية من بينها. إلا لحماية بشّار الأسد من السقوط، تأمينا لاستمرارها.
وإذا عُدنا إلى تاريخ قريب، لتلمّس شيءٍ مما يمكن أن يخبئه، فليس أمامنا إلا واقعة واحدة: حافظ الأسد، مورِث بشّار، استولى على السلطة بعدما هُزم في حرب 1967. الآن، يحتاج ابنه بشّار إلى درجة عالية من التبصّر لكي لا تطيحه تلك التشكيلة من الاحتلالات، التي أحالت "السيادة الوطنية" إلى قاموس الغرائب.
ولكن الدور الوحيد المُتاح له، الدور الوحيد الممكن، والذي سيكون في خدمة "وحدة الساحات" الممانعة، أن يساهم في أي اتفاق محتمل، بين حزب الله وإسرائيل، يقضي بانسحاب إسرائيل من مزارع شبعا، فيعلن بشّار أن هذه الأخيرة ليست لبنانية، إنما سورية، أو العكس: إنها لبنانية لا سورية. حسب ما تمليه مصلحة أصحاب الأدوار الأولى من هذا الاتفاق، لو حصل...