تعمد الأنظمة التسلّطية، أينما كانت وكيف تشكّلت أسسها النظرية وقاعدتها الشعبية، إلى توظيف حركات التحرّر الوطني، من أجل تعزيز شرعيتها وتوسيع شعبيتها وإحكام قبضتها على الداخل: معارضة وإعلام وحتى موارد وقدرات، خصوصاً إذا كان هذا الدعم يقف عند الكلام. تطوّر هذه الأنظمة خطابا ومفردات خاصة يتم استعمالها، إما في خطاباتٍ تُلقى أمام "الجماهير" أو في أثناء إلقاء الكلمات في منتظمات رسمية، على غرار الأمم المتحدة وغيرها... لا تكلف هذه المواقف عادة شيئا، إنها مجرّد "كلام"، عادة ما تقف حدود الجرأة عند عتباتٍ لا يمكن تجاوزها، وإلا تم نقض قواعد اللعبة.
هذا العالم قرية، ولذلك لا بد من ابتكار "مجنون القرية" الذي قد لا تخلو منها قرانا، يُسمح له بقول ما لا يُسمح للآخرين، ينطق أحياناً عن حكمة نادرة ربما غابت أو اندثرت تحت ثرثرة اليومي. لذا يحتفي الناس بمجنون القرية، ويتم رفع الحرج عنه وإسقاطه من المحاسبة تماما نظير ما قال. ومع ذلك، لا يمكن أن يتمادى فيما يقول، حتى لو كان ذلك ضربا من الجنون... ثمة مجانين قرى عوقبوا، لأنهم تجرّأوا على تلك الخطوط.
وقد تحوّل العالم إلى قريةٍ علا فيها الصخب والثرثرة. كان على العالم القرية هذا أن يبتكر أيضا بعض مجانينه، حتى يقولوا ما لا يقوله الأسوياء، إنه قول لا يُعتدّ به. والأكيد أن لهؤلاء الحمقى والمجانين وظائف عديدة لا يمكن حصرها، ولكن يمكن أن نذكر منها: كشف المستور، التنفيس والانتباه إلى الأحاديث الدفينة والتسلية. ثمة مواقف عديدة وتعبيرات كثيرة، ردّدها هؤلاء القادة، ما زالت محلّ تندّر.
أحرار العالم أينما كانوا وهم يجوبون الشوارع مندّدين بكل ما يحصل يشكل تحوّلا نوعياً في الرأي العالم وضميره
كانت فلسطين إحدى القضايا النبيلة التي لم تسلم من توظيفات القادة الذين، ويا للمفارقة، كانوا نسخاً سيئة من الاستبداد، فبقدر ما كتم هؤلاء أنفاس شعوبهم، حرصوا مقابل ذلك على أن يكونوا أنصارا للقضية. تتيح لهم هذه المفارقة إمكانات كبيرة للاستثمار السياسي والعاطفي الهائلة. يمنحنا تاريخنا المعاصر إمكانية العثور على أمثلة ناصعة من مستبدّين تحوّلوا، بفضل القضية الفلسطينية، إلى ثائرين أمميين وأبطال معارك التحرّر الوطني: نتذكّر العقيد معمّر القذافي الذي زايد على الجميع و"عانق القضية"، إلى أن دعا إلى ابتكار كيانٍ يضع حدّا للصداع الذي عانى منه طويلا، حين ابتكر لهذا الكيان الهجين اسم "إسراطين". وما زلنا نتذكّر عمليات التهجير القسري لعشرات الآلاف من الفلسطينيين، حينما وضعهم على الحدود مع مصر إثر خلافٍ مع الراحل ياسر عرفات. وكان الرئيس التونسي الراحل، زين العابدين بن علي، يردّد قولته الشهيرة، في كل لقاءاته مع عرفات "فلسطين هي قضيتي الشخصية"، فأطلق عليه عرفات لقب "زين العرب". ويعلم الكل أنه النظام الذي تجرأ على تبادل بعثات دبلوماسية تجارية مع الكيان الإسرائيلي، إلى أن أنهتها ثورة، وتم إنهاء مهام آخر ممثل لتونس في عاصمة الكيان، غير أن هذا سيصير، بقدرة قادر، بعد أقلّ من خمس سنوات، إلى وزير للخارجية في بلدٍ أنجز ثورة، وتلك من غرائب الزمان وألغازه. ويمكن أن تستحضر أيضا عدة أمثلة عن أنظمة عربية أخرى، على غرار مصر والعراق وسورية... إلخ.
التضامن العالمي مع أهل قطاع غزّة وهم يتعرضون لتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية ما زال الكيان الصهيوني مصرّا على مواصلتها، أمرٌ على غاية النبل
ولعله لافتٌ للنظر أن جل هذه الأنظمة ذات منهجية قومية، تيسّر لهم الذهاب في مواقفهم إلى أسقف عُليا من التزيّد والشطط. هذا الأصل التجاري الثقافي (قيم العروبة، مركزية القضية الفلسطينية، معركة التحرّر...) تتيح لهؤلاء احتكار القضية الفلسطينية والادّعاء بأنهم الناطقون باسمها الخلّص. نزع بعضٌ من هؤلاء الشرعية عن منظمة التحرير وحاربها وأغلق تمثيلياتها، من دون أن ننسى مواقفهم من قادتها، حتى أنه وصل ببعضهم إلى طردهم والتحريض عليهم ودعم انشقاقات وتمويل صرعات مسلحة بين إخوة السلاح.
التضامن العالمي مع أهل قطاع غزّة وهم يتعرضون لتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية ما زال الكيان الصهيوني مصرّا على مواصلتها، أمرٌ على غاية النبل. أحرار العالم أينما كانوا وهم يجوبون الشوارع مندّدين بكل ما يحصل يشكل تحوّلا نوعياً في الرأي العالم وضميره ... لا يمكن أن ننكر نبل مواقف بلدانٍ عديدة، شعوباً وحكومات، حين اتخذوا مواقف جريئة من الكيان الغاصب: طرد السفراء، إنهاء الاعتراف الدبلوماسي،... إلخ. تقدّم لنا جنوب أفريقيا برمزيتها المكثفة (إرث نيلسون مانديلا، النضال ضد الأبارتهايد) مثالاً جديراً بالإجلال: ديمقراطية ناشئة مع إسناد القضايا العادلة... أما ما يصدر أحيانا من هنا وهناك عن أنظمة شمولية من مواقف، حتى ولو كانت مساندة، فهي لا تخرُج عن توظيفاتٍ مسيئةٍ للقضية ذاتها، باعتبارها نداء للتحرّر والانعتاق.