منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب العدوانية على غزّة في 7 أكتوبر، وجد العراق نفسه محشورا في تلك المواجهة بطريقةٍ أو بأخرى، كيف لا وهو جزء من "محور المقاومة" الذي شكلته إيران، وعملت عليه سنوات، بانتظار اللحظة المواتية للمواجهة ضد دولة الكيان الإسرائيلي، كما كانت تشير تصريحات قادة هذا المحور سواء في طهران، أو بغداد، أو دمشق أو الضاحية الجنوبية لبيروت وحتى صنعاء.
ليس خافيا على أحد أن العراق، ومنذ سقوط نظامه السابق على يد القوات الأميركية المحتلة عام 2003، تحوّل شيئا فشيئا إلى حديقة خلفية لإيران، التي باتت تسيطر على قراره الاقتصادي والسياسي وحتى العسكري، ناهيك طبعا عن أكثر من 72 مليشيا مسلحة شكلتها إيران لكثير منها أذرع سياسية ممثلة في البرلمان ووزراء في حكومة محمد شيّاع السوداني الحالية.
اندفعت الفصائل الموالية لإيران بعمليات ردّ مسلحة على العدوان الإسرائيلي على غزّة تنوع هذا الرد بين قصف لقواعد أميركية في العراق وأخرى في سورية وثالث طاول مواقع عسكرية في إسرائيل بطائرات مسيّرة أو حتى صواريخ، كما ادّعت ما تُعرف بالمقاومة الإسلامية العراقية في بياناتها، من دون أن يكون هناك ما يؤكّد الكثير منها. إلا أن المؤكد طبعا أن مسيّرات عديدة استهدفت مواقع عسكرية مشتركة للقوات الأميركية وقوات البشمركة الكردية في مدينة أربيل، في ردٍّ لا يفهم منه سوى أنه استهداف مباشر لأربيل وحكومتها، قبل أن يكون استهدافا للقوات الأميركية هناك، وهو ردٌّ إن وضع في سياقه الطبيعي يؤكّد رغبة إيرانية في تقويض دعائم حكومة الإقليم. في المقابل، تفاوت الردّ الأميركي على تلك العمليات التي شنّتها الفصائل المسلحة في العراق بين قصف مواقع وآخر استهدف شخصيات نافذة في تلك الفصائل، وآخرها وأكثرها خطورة القصف الذي طاول قياديا في حركة النجباء، أبو تقوى السعيدي الذي اغتيل بطائرة مسيّرة، وهو أمام مقر الحركة في منطقة شارع فلسطين وسط العاصمة بغداد، وفي وضح النهار.
الولايات المتحدة وإيران تتعاملان بمبدأ "العدو المفيد"
تؤكّد متابعة لما تقوم به الفصائل العراقية المسلحة من عمليات استهداف للقواعد الأميركية في العراق، أن هذه العمليات لا تحمل سوى عنوان واحد، أنها عمليات "رفع عتب" تقوم بها تلك الفصائل، فقط للتأكيد على أن "محور المقاومة" بقيادة إيران فاعل، ويساهم في التصدّي للعدوان الإسرائيلي على غزّة.
لا تريد إيران لفصائلها ومليشياتها في العراق أن تتورّط كثيرا في مستنقع الحرب التي بدأت من غزّة، فلدى طهران مصالح كبيرة ومهمّة في العراق، وهي تمتلك اليوم هيمنة ونفوذا على كل مفاصل الدولة العراقية، وهي أحرص ما تكون للمحافظة عليها، وبالتالي، فإن إيران ترفض أن تتورّط الفصائل العراقية المسلحة في هذه الحرب بشكلٍ قد يُفقد إيران بعضا من نفوذها.
من هنا، يمكن فهم "البرود" الأميركي، إن صحّ التعبير، في التعامل مع تهديداتٍ من هذا النوع، رغم أن إعلانات تلك الفصائل عن استهداف قواعد أميركية تكاد تكون يومية، ولعلنا هنا نشير إلى أن الولايات المتحدة وإيران تتعاملان بمبدأ "العدو المفيد"، فهذه العداوة نجحت في إيجاد مصالح متشابكة لكلا البلدين، مصالح لا تنفكّ تتشابك أكثر كلما ارتفع منسوب العداء "كلاميا" من حين إلى آخر.
لا أحد يريد لهذه الحرب أن تصل بشررها إلى العراق
تدرك حكومة محمد شيّاع السوداني أن الحبل السرّي لبقائها يمتدّ من بغداد إلى واشنطن، وهو ما تدركه إيران أيضا، بالتالي، لا أحد يريد لهذه الحرب أن تصل بشررها إلى العراق، على الرغم من أن لدى الحكومة العراقية، ومن خلفها إيران طبعا، أوراقاً عديدة يمكن أن تضغط بها على الولايات المتحدة، لدفعها إلى التدخل بقوة أكبر لوقف هذا العدوان الهمجي على غزّة، خصوصا في ما يتعلق بالشقّ الاقتصادي، والمتمثل بالمصالح الأميركية في العراق. ولكن ما يمكن أن تؤشّر إليه حرب غزّة أنها زادت من الانقسام داخل البيت السياسي الشيعي، فما بين فصائل كانت وما زالت تصرّ على أهمية العمل المسلح، وتوجيه ضربات للقوات الأميركية وقواعدها، وفصائل أخرى ترى أن التهدئة هي التي يجب أن تسود، خصوصا أن هناك مخاوف من أن ردة الفعل الأميركية قد تفلت من عقالها، وبالتالي إدخال العراق في أتون أزمة جديدة مع الولايات المتحدة، مع ما يترتب على ذلك من تداعيات اقتصادية كبيرة.
وتدرك إيران، الحريصة هي الأخرى على ألا تُدخل العراق في أتون مواجهة أكبر مع الولايات المتحدة، لما يمكن أن يحمله من تداعيات، أن أطرافا أخرى قد تكون بدأت بالدخول على خط نفوذها في العراق. والإشارة هنا إلى نفوذ روسي بدأ يظهر منذ عدة سنوات، من خلال دعمٍ قدّمته موسكو لأطرافٍ شيعيةٍ مسلّحةٍ في العراق، والخشية الإيرانية المتعاظمة من تقاطعٍ بين مصالحها ومصالح موسكو في العراق، تقاطع يمكن القول إنه بدأ يظهر من وقت إلى آخر في عدّة مناطق في العراق على شكل مواجهاتٍ مسلحة بين الفصائل الشيعية المختلفة.