عبَرت الصورة مسرعةً داخل طوفان التشكيلات المرئية في الحرب على غزّة. خطفاً رُسمت الفاجعة، تسلّلت وتناثرت؛ روْعنا تلاشى، ورعبُنا صار بحاجة لمحفّزاتٍ جديدةٍ رهيبةٍ من نوع آخر!
صورةٌ تكرّرت في الذاكرة البشرية، حدثت قبلاً في سورية والعراق و... لكنّ الموقع واحد، والحفرة ذاتها؛ حفرة شبه أسطوانية هي، في حقيقة الأمر، قبرٌ جماعيُّ يضم أجساداً بشريةً مصفوفة ومتلاصقة، تم وضعها كإعلان مقاربة أو مفاضلة بين وحشياتٍ أنتجها البشر.
على الشقّ الأيمن صورة بالأبيض والأسود لضحايا يهود سقطوا سنة 1945 في أوروبا، يغلب على الصورة اللون الأبيض، لون العدم، وعلى الضفّة اليسرى مقبرة جماعية لضحايا فلسطينيين سقطوا سنة 2023. الجسد الفلسطيني مغلّفُ باللون الأزرق، أصل حيواتنا؛ البحر والسماء. ... تقول الصورة؛ انظروا من منّا الضحية ومن هو الجلاد؟ في الأصل تقول: هنا ما لا يُرى ولن يُرى إلا هنا .
لا يمكن إطلاق صفة كائنٍ حيٍّ من دون أن يتضمّن ذلك سيراً زمنياً نحو الموت
لو لم تكن في تلك الحالة التي تُفاضل بين صورتين من مشهديةٍ جنائزيةٍ كبرى لبَدَت أقلّ اصطناعاً! لكنّ وضعها ضمن هذه التفاضلية هو وحشيتها ذاته! لا مأساوية هنا في التحديق إليها، إنها نظيفة أكثر مما ينبغي للترويع. لا خريطة للجسد، الأبيض والأسود من فعل الامحاء وعدم الوضوح واليقين، والثانية تضع مسافةً بينها وبين دهشتنا، نحن الأحياء الذين نبحث عما وراء الأكفان الزرقاء، لا أحد يستطيع التدقيق مليّاً، ولا حتى التحديق في تلك الصورة، لتحديد ما تُخفيه خريطة الأجساد وتوثيقه.
يتراجع فعلُ التحديق والانقباض، نحن نحتاج لرؤية الدماء! هذا الموتُ مغلّفٌ بالخفاء. ورغم المعرفة بسياقه إلّا أنّه يحيل في مخيّلتنا إلى العادي، نعم! تغلّف الأكياس - الأكفان - أياً يكن مسمّاها، تغلّف الرّوْع.
رفاهية الصورة هي في إيجاد الوقت بين موتٍ وموت لحماية أجساد الضحايا من التحلّل في العراء وهذا ترفٌ لا تحظى به الأجساد عادة في الحروب. هذه المسافة المانعة عن التحديق لا تحمي الضحايا ولا تحفظ فقط حرمة الجسد البشري كما نردد، إنها تحمينا نحن الذين ما زلنا على قيد الحياة من رؤية الوجه الآخر لأجسادنا، أو حقيقتنا الكامنة في مواصلة عيشنا! الحقيقة التي تعني أنّ الحياة هي الموت، إذ لا يمكن إطلاق صفة كائنٍ حيٍّ من دون أن يتضمّن ذلك سيراً زمنياً نحو الموت. الذي يعيش سوف يموت، ونحن لا نريد رؤية ذلك على الأقل، إلى حين! عدا عن حماية أنفسنا من رؤية الفظاعة، فهذه الصورة التفاضلية الوحشية تصل إلينا ملساءَ مرقّطةً لا تضاريس فيها سوى إحالتها وسياق الحدث الذي تدور فيها، لا تفترض الصرخة عند رؤيتها ولا الشهقة. تمشي وتسيل بنعومةٍ لتنضمّ إلى ملايين الصور السائلة والناعمة للجسد الفلسطيني، حتى تصيب الرائي بالعمى.
المخفي في أحد وجوه تمثلات صورة الجسد الفلسطيني يتحوّل إلى فرجةٍ ومطحنةٍ يوميةٍ من الفاجعة؛ الموتُ قصفاً، جوعاً، تقطيعاً
في المقابل، الصورة القادمة من سردية الهولوكست، الأجساد القادمة من التاريخ، مَحميةٌ أكثر منها؛ هي باللونين الأبيض والأسود، بعيدةٌ وغائرةٌ في الزمن. وإذا أضفناها إلى السردية المرئيّة التي فرضتها الثورة الرقمية في المجزرة المستمرّة على أهل غزّة فإنها تتلاشى نهائياً.
العاديّ المهموم بالرؤية البصرية يُحيل إلى ما هو أبعد في انشقاق معنى الضحيّة عن الجلاد، صار هو الوحشي الذي غدا مألوفاً، وما تمّ إخفاؤه يكمن في سِيَر أولئك المجهولين للناظر وحيواتهم، وهذا أهون الشرور، لكنّ الصورة المخفية والعميقة، والتي تتسرّب في الزمن بعيداً عن أعين المتفرّجين، هي ذلك الشر الخفي المقنع كأفعى ناعمة ملساء تختبئ في أوكار التاريخ. أفعى تتسلّل في مسرح اللاعدالة، تلبس طاقية الإخفاء وتُسمّى تدوير العنف.
الصورة المخفيّة الملساء التي تشبه أجهزة هواتفنا وحيواتنا الظاهرية هي الصورة الأصل لتلك الأجساد، الصورة الأصلية تصير المسودّة، تضيع في أدراج اللاوعي، هي الصورة غير المنظورة والمخفية؛ صورة أبناء الضحايا اليهود، الصورة حكايةٌ ولا يمكن النظر إليها إلّا بوصفها امتداداً لملايين صور جزئيةٍ مشتقّة منها، هذا إذا استطعنا الوقوف عند هذه الحقيقة، كلّ صورة هي رواية، والرواية شبه الحقيقية لمآلات حيوات أحفاد الأجساد المرميّة في المقبرة اليهودية، صورةٌ لا تهمّ أحداً، فمصائر حيوات الأحفاد الذين نجوا من الإبادة في أربعينيات القرن الماضي، تدخُل في سياق العادي، هم تابعوا حيواتهم وانتشروا في بقاع الأرض، وعلى الأغلب هاجر معظمهم من بلدانهم الأصلية إلى البلد الموعود، حيث أعادوا إنتاج المجزرة بعيداً عن عين المتلصّص، إنهم نظيفون لمن يراهم عن بعد، بشوشون، ناجون، أهالوا التراب على الصورة التي حوّلوا فيها الآخرين إلى صورة مطابقة لمصائر أسلافهم، صنعوا نسخاً مكرّرة عن موت أهلهم، ومشوا فوق الأجساد الفلسطينية المطمورة داخل حفر جماعية بطمأنينةٍ، لا فضيحة في صورهم وحيواتهم، لا معنى للفداحة في أنهم بقوا على قيد الحياة عبر سرقة حيوات بشرٍ آخرين، لن تظهر صورُهم لتشير إليهم بالبنان: هؤلاء هم القتلة الجدد.
كلّ شيء قابلٌ للامحاء بالإعلان عنه، وكأنّ الصمت حماية، والصراخ انتهاك!
المخفيًُ في أحد وجوه تمثلات صورة الجسد الفلسطيني يتحوّل إلى فرجةٍ ومطحنةٍ يوميةٍ من الفاجعة؛ الموتُ قصفاً، جوعاً، تقطيعاً... الموتُ بكلّ تشكيلاته وفنونه اللامتناهية هنا في هذه الصورة الملساء، تحديداً يظهر في كتل زرقاء ملفوفة في أكياس بلاستيكية. يريد القتلة الجدُد احتلال حتى صورة الموت الفلسطيني عبر هذه التفاضلية، وهناك صمتٌ من نوع آخر يلفّ الضحية الفلسطينية، بإعادة تكرار انتهاكها اليومي. وللأسف، فهي الوسيلة الوحيدة الباقية للضحية للتعبير والقول: انظروا إلى موتنا، حدّقوا! الفرجة مجانيّة، صدّقونا، نحن نُباد! بين هاتين الصورتين تحديداً، تختفي صورة الأحفاد الأحياء الذين نجوا من الحفرة الجماعية (صورة الأبيض والأسود) لا تحيل إلا إلى معنى واحد لمن يريد أن يرى أبعد: انظروا هؤلاء قتلوا أهلهم مرّتين! مرّة عندما قتل النازيون أهلهم، ومرّة ثانية عندما أعادوا صناعة قتلهم وتمثيله وصناعة الفاجعة بالوحشية ذاتها عبر الجسد الفلسطيني.
الكارثة من نوع آخر قادمة، من تمثّلات الصور القادمة في المستقبل، صورة أحفاد الفلسطينيين أو أولادهم، الذين ننتظر أن يحدّقوا في صورة الأكياس الزرقاء التي كانت يوماً عائلة، ماذا لو فكّروا أنّ الوقت سيكون مناسباً دوماً لمنح عائلاتهم العدالة، وجعل من قتل آباءهم يعودون الى تلك الحفرة حتى ولو بعد حين، هذا أمرٌ طبيعيٌّ ما دامت الأفعى الملساء لا تنظُر إلى عين العدالة!
نحن ننظُر الآن إلى عالمٍ هويّتُه وسلعتُه الصور، وربما في عالم سرعة الضوء الذي نعيش فيه، كلّ شيء فيه قابلٌ للامحاء بالإعلان عنه، وكأنّ الصمت حماية، والصراخ انتهاك! وإذ نجد أنفسنا أمام غرابةٍ من نوعٍ جديدٍ وخرابٍ وفراغٍ كبيرٍ يقود العالم في هذه اللحظة، فربما هذا لا يعود فقط إلى أنّ الصورة المخفيّة، الصورة الانتقامية في ظلّ إفراط اللاعدالة ستُعيد إنتاج نفسها، لكن وربما في هذه الفوضى التي تستهلك كلّ شيء ولا يبقى أحيانا أمام رواية الكارثة سوى الوعد بمزيدٍ من الظلام والوحشية. يبقى النظر إلى الصورة المخفيّة في عالم ما بعد النيوليبرالية وهي تعيد إنتاج العنف، ما قد يمنحنا بعض الوقت تأمّلأ في الصور الصامتة، وربما التحديق فيها. صورة أولئك الأحياء الذين لن نراهم حتى يتحوّلوا إلى موتى وتلك الأفعى السامّة التي حكمت تاريخ وجودنا البشري والتي تُطبق فكّيها الآن على الجسد الفلسطيني.