يمثّل القصف الإيراني أخيرا على أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق تحوّلاً خطيراً في قواعد الاشتباك المتبعة بين طهران من جهة، وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى، حيث استخدم الحرس الثوري الإيراني، ولأول مرّة، صواريخ بالستية، استهدف بها القنصلية الأميركية ومحيطها في أربيل، ما أدّى إلى سقوط أربعة قتلى من المدنيين، بينما لم يسفر قصف إيراني مماثل في باكستان عن خسائر بشرية.
تزامن هذا القصف مع إرسال الولايات المتحدة تعزيزاتٍ عسكريةً جديدةً إلى قواعدها في غرب العراق وشرق سورية، وهي بالمجمل تطوراتٌ لا يمكن فصلها عن المشهد العام المتوتر جداً في المنطقة، وتحديداً منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى في قطاع غزّة، في 7 أكتوبر، حيث امتدت المواجهة، وإن بشكل محدود إلى جنوب لبنان والبحر الأحمر. لكن اللافت أنه في اللحظة نفسها التي استهدف الحرس الثوري بها أربيل بصواريخه متوسطة المدى من طراز فاتح 110، وطائراته المسيّرة من طراز شاهد 136، تم إطلاق أحدث صواريخ خيبر شيكان البالستية متوسّطة المدى من محافظة خوزستان باتجاه شمال غرب سورية قاطعة مسافة 1230 كيلومتراً في استعراض قوة غير مسبوق، فالمواقع المستهدفة في شمال غرب محافظة إدلب لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن مرابض المدفعية الإيرانية في مدينة سراقب، وقواعد صواريخها في الفوج 46 غرب حلب.
لا يمكن التعامل مع هذا القصف الإيراني في أربيل وسورية، والذي أعقبه استهداف غير مسبوق بالصواريخ والطائرات المسيرة لإقليم بلوشستان جنوب غربي باكستان، إلا باعتباره تطوّراً نوعياً في سياقٍ متصاعد، قد يصبح أكثر تشابكاً وتعقيداً إذا ما أخذنا بالاعتبار التغييرات اللافتة في قواعد المواجهة أيضاً بين حزب العمال الكردستاني وتركيا أخيرا، والتي شنّت الأخيرة هجمات مكثفة وضربات قوية نفذتها وما تزال القوات التركية ضد أهداف تابعة للحزب المصنّف على قوائم الإرهاب طوال الأيام الأخيرة الماضية، ردّاً على هجوم للحزب استهدف قاعدة عسكرية تركية شمال العراق يوم 13 يناير/ كانون الثاني الحالي، وشمل الردّ التركي تجمّعات ومواقع للحزب في إقليم كردستان العراقي، كما طاول حقولاً ومنشآت نفط شمال شرق سورية، في تركيز واضح على ضرب موارد الحزب المالية. ولكن التطور النوعي اللافت على هذا الصعيد حدث يوم 12 يناير/ كانون الثاني الحالي في شمال غرب سورية، عندما دخلت، للمرة الأولى، طائرات تركية من طراز إف 16، المجال الجوي السوري للتعامل مع طائرة من دون طيار (درون) مجهولة الهوية، كما ذكرت وزارة الدفاع التركية أن المقاتلات التابعة لسلاح الجو التركي اعترضت طائرة من دون طيار كانت تقترب من المواقع العسكرية التركية في إدلب، وأعاقتها وأبعدتها من دون الحاجة إلى أي تعامل عسكري.
يخشى حلفاء النظام من مآلات انتفاضة السويداء، مع تزايد اهتمام الإدارة الذاتية شمال شرق سورية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية بهذا الحراك
لم توجّه أنقرة الاتهام لحزب العمّال الكردستاني بالمسؤولية عن إرسال هذه المسيّرة، لكنها أيضاً لم تتهم أي طرفٍ آخر، بل كان لافتاً تجنّب المسؤولين من مختلف الأطراف التعليق على الحدث، سواء الروس أو الإيرانيين أو الأميركيين، وكذلك النظام السوري بطبيعة الحال. لكن هذا لا يقلّل من أهمية الأمر، بل يجعل الغموض الذي اكتنف هذا التدخل (النوعي) الذي يحدُث للمرّة الأولى في المجال الجوي لسورية مسألة بحثٍ مهمّة للمحللين من أجل استشراف وتوقع ما يمكن أن يترتب عليه. فعلى مدار ما يقارب العقد من التدخل العسكري الأجنبي في سورية، بدءاً من الانخراط الإيراني المبكّر في المواجهة بين النظام وقوى الثورة والمعارضة، مروراً بتشكيل قوات التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2014، وصولاً إلى التدخل العسكري الروسي المباشر، وليس انتهاءً بالعمليات التركية شمال البلاد، ظلت الأجواء السورية محظورة على الطيران الحربي التركي، باستثناء وحيد حصلت عليه عندما نفذت عمليتها المعروفة باسم "درع الفرات" ضد "داعش" شمال حلب بين عامي 2016 و 2017، ومنحت هذا الترخيص تحت غطاء عمليات قوات التحالف الدولي.
اللافت أنه حتى عندما تعرّضت القواعد العسكرية ونقاط المراقبة التركية في ريفي حماة وإدلب، شمال غرب سورية، لهجمات عنيفة من قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وخصوصا نقطة المراقبة في بلدة بليون في منطقة جبل الزاوية في شهر فبراير/ شباط 2020 وراح ضحيتها 34 من الجنود الأتراك، وردّت تركيا على قوات النظام بعملية عسكرية سمتها "درع الربيع" لم يتدخّل سلاح الجو التركي، فيما بدا أنه التزام بتفاهمات المجال الجوي السوري التي أباحته فقط لمقاتلات الروس والإسرائيليين وقوات التحالف. ولكن عندما تتحرّك مقاتلات تركية متطوّرة تحت مبرّر التعامل مع مسيرة كانت تتوجّه إلى إحدى قواعدها قرب إدلب، فإن الحدث يستدعي توقّفاً ملياً، كما تتطلب قراءته التعامل بجدّية هذه المرّة، ليس فقط مع ما يجري في عموم المنطقة وحسب، بل وبشكلٍ أكثر تركيزاً مع ما تبدو أنها ملامح هندسة جديدة للوضع الميداني في سورية.
على صعيد الغليان في الشرق الأوسط، لا يبدو أن أنقرة بعيدة عن تفاعلاته، لكنها لا تبدو على تماسٍّ مباشرٍ كذلك مع التصعيد الحاصل بين المحور الإيراني والغرب، إلا إذا كان لدى مخابراتها معلومات جدّية بدور محتمل لحزب العمال الكردستاني في هذا التصعيد يرتب له منذ الآن، الأمر الذي جعل موسكو تسمح لأنقرة باستخدام المجال الجوي السوري، وعندها سيكون هذا التحليق الذي نفذته مقاتلات إف 16 التركية في سماء إدلب بمثابة رسالة، وأيضاً بمثابة طلعة تدريبية تحضراً لعمليات حقيقية في أي لحظة، وإلا من غير المنطقي أن تتكلّف أنقرة عبء إرسال مقاتلاتها المتطوّرة هذه من أجل التعامل مع مسيرة بدائية تكلفة صنعها لا يتعدّى بضع مئات من الدولارات، ويمكن التعامل معها من خلال وسائط الدفاع الجوي والمضادّات الأرضية، أو بواسطة صواريخ جو جو من الحوّامات القتالية التي تتمتع بمناورة وقدرة على التعامل مع المسيّرات من خلال الرمي المباشر أيضاً وبأقل تكلفة.
تطوّرات المنطقة المشتعلة اليوم قد تدفع صفائح الجغرافية السورية إلى التحرّك على وقع هزات ارتدادية بعد زلزال غزّة
الاحتمال الآخر الذي يجب أخذه على محمل الجد هذه المرّة، ومن خلاله يمكن تفسير سبب حجز مسار للطيران الحربي التركي في الأجواء السورية، وهو التكهنات بتفاهماتٍ غير معلنة تمت أو تتم بين المتدخلين في الصراع السوري، من أجل إحداث تغييرات جذرية في المشهد العسكري، لا يمكن فصلها في النهاية عن صراعات المحاور الشاملة في عموم المنطقة. ففي الجنوب، يخشى حلفاء النظام من مآلات انتفاضة السويداء، مع تزايد اهتمام الإدارة الذاتية شمال شرق سورية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بهذا الحراك، والدعوات المتكرّرة إلى ربط المنطقتين عبر البادية السورية بغطاء وحماية أميركيتين، وهو أمرٌ لا يروق لأنقرة بطبيعة الحال. وفي مناطق النفوذ التركي أوقفت تشكيلات تابعة لـ"الجيش الوطني"، المدعوم من أنقرة، مفاوضاتها لتأسيس تحالفٍ جديدٍ كانت هيئة تحرير الشام تدفع نحوه بقوة، بالتوازي مع تفجر صراع داخلي عنيف داخل الهيئة، لا يستبعد أن تكون قد ساهمت فيه أيد مخابراتية من هنا وهناك، بهدف إضعاف التنظيم تمهيداً لمرحلةٍ جديدة، لا يستبعد معها منح أنقرة دوراً واسعاً في الشمال، ما يتطلّب حرية تحرّك عسكري وعملياتي أوسع للجيش التركي، وهو ما لا يمكن أن تقبل به (إن حدث) من دون الحصول على مكافأة مجزية على حساب "قسد" ومناطق سيطرتها، وهو ما ألمح إليه يوم الثلاثاء الماضي رئيس حزب الحركة القومية التركية، دولت بهجلي، حيث طالب بمنطقة آمنة على الحدود السورية بعمق 60 كيلومتراً.
لا يمكن استبعاد مثل هذه التفاهمات في منطقةٍ رخوةٍ ووسط أحداث سيّالة لا تتوقّف، لكن لا يمكن، في الوقت نفسه، القطع بها، بل ولا حتى الجزم بتطبيقها حتى إذا صحّت، حيث سبق أن فشلت الدول المتدخّلة في سورية بتنفيذ تفاهماتٍ سابقة فيما بينها، لكن تطوّرات المنطقة المشتعلة اليوم قد تدفع صفائح الجغرافية السورية إلى التحرّك على وقع هزات ارتدادية بعد زلزال غزّة.