الفيزياء أم العلوم
المجد للنسبية.. آينشتاين.. ماكس بلانك.. هايزنبرغ.. فاينمان!!
هذه حياته ولا شيء سواها.
الفيزياء الحياة في نظره وما الحياة إلا الفيزياء، وماذا غير الفيزياء!
مصطفى عبد القادر، هذا اسمه طالب في الثانوية العامة ثانوية عبد الناصر صنعاء.
غاوٍ للفيزياء.. هو طالب متفوق نعم، لكنه علمي حتى النخاع.
زملاؤه يسمونه (آينشتاين عصره) من ولعه بالنظرية النسبية على صغر سنه.
أبوه مفتخر به بين أصحابه في مقيل القات.. ما شاء الله ابني مصطفى عبقري درجاته في الفيزياء والرياضيات والكيمياء تمام وعال العال.
لم يختلط بأقرانه كثيرًا لا شيء يشده إلى عالم المراهقين أمثاله.
هو غاوٍ للفيزياء فقط، هكذا دائما يقول.
لقد سمع حلقات العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود أكثر مما سمع لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وحتى "الآنسي"!
وكان من الطبيعي أين يكون معدله مرتفعا في الثانوية العامة، مما يؤهله أن يدخل أرقى الكليات..
وهنا بدأت المشكلة!
***
هو يريد أن يقدم للبعثة المتوجهة إلى العراق في قسم الفيزياء، لكن أبوه ومعارفه يريدونه أن يدخل كلية الطب، خصوصا مع معدله المرتفع.
- يا بني الطب تمام، تتخرج تفتح لك عيادة أو تنتظر وظيفة ولا هم يحزنون، رزقك بيدك.
يقول أخوه: فيزياء أيش؟ ترجع مدرّس في مدرسة بسيطة تقعد تنتظر للمعاش ليوم عشرة من الشهر الثاني؟!
يصرخ في وجوههم: لا لا مَنْ قال مدرس، بل دكتور في جامعة وعالم أبحاث فيزياء و...
يصرخ أبوه: أي مركز أبحاث، أي (زفت)!
يا ولدي، ليش في عندنا مراكز أبحاث؟ لا تكون تصدق كلام الكتب!
لكن في نهاية المطاف وبسبب عناده يسافر إلى العراق لدراسة الفيزياء.
***
يحط مصطفى رحاله في العراق في التسعينيات.
وهناك في جامعة بغداد الدكاترة مستغربون من مجنون الفيزياء هذا؟!
وتبدأ الدراسة.
الدرجات عالية.
لكن معامل الجامعة خالية من طلبات التجارب العملية.
- دكتور لماذا لا نجري تجربة (مليكان) عملي؟
- أصلاً (ماكو) مواد.. حصـــــــــــــــــــــــــار!
- لكن يا دكتور... يتركه الدكتور وينصرف.
أدرك مصطفى الوضع؛ فالحصار أخلى الجامعات من موادها.
يقول: لا يهم!
سأفتح مختبرا في البيت. الحمد لله المنزل واسع، ويمكن تخصيص غرفة للمختبر.. تمامًا كإديسون.
وبالفعل كان مختبره المتواضع الذي احتل إحدى الغرف، يعج بمواد اشتراها في سفرياته من الأردن وسورية.. معامل.. أنابيب اختبار.. سحاحات.
وفجأة كان رجال المخابرات العراقية عند باب الدار؟!
***
الغرفة مظلمة والأسئلة لا تنتهي:
- لماذا كل هذه الأجهزة في بيتك؟
- ناوي انقلاب على النظام؟
كان يشرح لهم للمرة الألف هدفه من مختبر بسيط في البيت:
- أنا طالب فيزياء
- أحتاج تجارب
- أنا...
لكن لا أحد يصدق ما يقول؟!!
ظل أياماً لا يدري عددها، ولكنه عاشها لحظة بلحظة.
أنقذه الله بأن تدخل أحد اليمنيين الذين كانوا في القيادة القُطرية للحزب الحاكم في العراق، وشرح لهم عن حال هذا المسكين المهووس بالفيزياء.
بعد أيام كان في منزله.
***
كانت تجربة سيئة ولا شك، لكن الفيزياء لا دخل لها بالموضوع، الفيزياء هي أم العلوم.
نفسيته أصبحت سيئة.
المختبر لم يعد له وجود، فقد تمت مصادرته.
أصدقاؤه نصحوه بأن يبطل (الهَوَس) ويكمّل سنوات الدراسة بهدوء.
ولقد سمع النصيحة على أكمل وجه؛ فأكمل سنوات الدراسة بمعدل محترم.
لا يهم... كان ينظر للجميع أنهم خانوا الفيزياء إلا هو؟!!
عاد إلى بلاده.
***
معادلة الشهادة.
- راجعنا بعد شهر
- معدلك مرتفع، لكن الأولوية لخريجي الجامعات المحلية.. على العموم سجّل اسمك!!
- صاحبي تحتاج وساطة
الدوامة الروتينية التي دخلها مصطفى لم تنتهِ.
الجميع يحتاجون فيتامين (و)... كما يقول جاره!
العلم مقدس، لكن المال أقدس من كل شيء.
مجالس القات لا تفهم النسبية يا مصطفى... ما أخبار فلسطين؟
- الجامعات مكتفية معيدين.
- ضم اسمك لسجل الخدمة المدنية لما يجي دورك في التوظيف.
مرت شهور تتلو شهوراً.
أسرة مصطفى مغلوبة على أمرها والتوظيف يحتاج أموالاً والحالة متعسرة.
***
بعد عدة سنوات:
- مش معقول مصطفى.. أيش تسوي هنا في (بني مطر)؟
- كما تشوف، مدرس فيزياء في هذه المدرسة... يشير إلى المدرسة
- (باستغراب) أنت يا مصطفى.. يا سبحان الله!
- وأنت يا عادل أيش أخبارك؟
- الحمد لله أصبحت مقاول بعد أبي في صنعاء، وترميم هذه المدرسة داخل في مقاولة الوالد، وجيت للمعاينة. المهم نخزّن* سوى اليوم..
ثم يميل نحوه هامساً: وإلا ما تخزّنش على ما أعرفك؟!!
يرفع مصطفى يديه ملوحًا: منْ قال هذا؟ اليوم أنا أكبر (مولعي)**!
- خلاص أنا معي شغل الآن، نلتقي بعدين في مجلس الشيخ ناصر.
تابعه مصطفى بعينيه حتى اختفى، ثم توجه الى غرفة المدرسين حيث تراصت دفاتر الطلاب على طاولته، وصوت المدير يملأ الساحة:
أستاذ مصطفى، حصتك قد بدأت.