حسين علاوي – رسوم: غزال محمد
لا شك في أن الإمام محمد باقر الصدر يمثل مشروعاً فكرياً راهنت الأمة به على مستقبلها.. ومرجعاً انساقت معه حينما شعرت أن الوعي متجسد فيه، يحطم كثافة الظلام الذي راكمته قراءات ناقصة للواقع الإسلامي، قراءات زيفت الوعي وحاصرت الدين وقذفت بالمشروع الإسلامي في زاوية الانكفاء على الذات والانسحاب من مسرح الحياة لصالح ترسبات مستقرة في الوعي، تستدعي باستمرار المنجز الفكري من دون أن تلاحظ تاريخيته، فلا يستجيب للواقع المتطور ولا يلبي حاجات الإنسان المتجددة.
كذلك كان للإمام الصدر من التراث موقف مغاير للمألوف، فقد استدعى مكوناته وحلل بنيته واستبعد كل ما هو تاريخي أنتجته المرحلة استجابة لظروفها الضاغطة، وأبقى العناصر الصالحة لبناء حاضر إسلامي زاخر بالمنجزات على صعيد الفرد والمجتمع والمستقبل، يستجيب لطموحات الرسالة الإسلامية في سيادة القيم الإسلامية.
رصانة المنهج
لهذا انتقل الفكر الإسلامي على يده نقلة نوعية أهلته لدخول الواقع بكفاءة عالية،
وهذا التحول أحدثه الإمام الصدر بفعل رصانة المنهج وقوة الأدوات، فكانت الخطوة الأولى في مشروعه هي نقد الذات وتعريتها وتقويمها، بعيداً عن التضخيم والاختزال، مع تحري الموضوعية ومعالجة نقاط الضعف بعد تشخيصها.
لم يستعن الشهيد الصدر بمنهج من خارج فضائه الثقافي كما فعل بعض المتغربين فأخطأوا في تشخيص الواقع، بل إنه توافر على منهج سليم ينتمي الى نفس البيئة التي ينتمي إليها الإمام الصدر، واستعار أقوى الأدوات المعرفية لتنفيذ مشروعه، فكان على درجة عالية من الثقة بالنفس، ينقد ويفكر وينظر، لا يخشى الممنوع ولا يتهيب من نقد الذات، وإنما يعتبره ضرورة ملحة لاكتشاف الأخطاء وخطوة على طرق التجديد.
نظرية الاستدلال
لم يتخل الإمام الصدر، وهو فقيه كبير ومجتهد ذو فكر ملهم يحيط إحاطة تامة بقواعد الاستنباط وبالآراء الفقهية.. لم يتخل عن رسالته بحجة أن تحت أيدينا ذخيرة فقهية ثرة، بل إنه من خلال جهوده الفكرية وإبداعاته في الذود عن الإسلام والبرهنة على قدرة هذا الدين على إدارة الحياة، استطاع أن يلفت إليه الأنظار بوصفه أحد باحثي الديانة المتنورين في عصرنا الحاضر وفي تاريخ الفكر الإسلامي. فعلى صعيد علم الكلام قدم الإمام الصدر نظرية جديدة في الاستدلال على أصول الدين استبعدت المنهج القديم في الاستدلال، واستخدمت منهجاً آخر يناسب مستوى التطور الذي رقى له العقل، وانتقلت بالفكر العقيدي من عالم التجربة الى مخاضات الواقع التي تنغص حياة الإنسان كل يوم..
التفسير الموضوعي
على صعيد التفسير، قدم الإمام الصدر أطروحة التفسير الموضوعي استجابة للظروف الاجتماعية والسياسية في المرحلة الراهنة، وهذا النمط من التفسير حديث العهد في الساحة الفكرية الإسلامية، بينما ساد التفسير التجزيئي مناهج المفسرين.. ويسجل الإمام الصدر على الفهم التجزيئي للآيات أنه: “يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالباً، من دون أن يكشف أوجه الارتباط.. دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع مع الأفكار، من دون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال في مجالات الحياة".
وفي حقل الفلسفة فقد ألّف الشهيد الصدر رسالة في المنطق في سن مبكرة جداً، سجل فيها جملة ملاحظات على القضايا المنطقية. له في مجال الفلسفة أكثر من عمل ناقش فيها مسار الفلسفة الأوروبية، وانتقد أسس المادية الجدلية، وقدم رؤية جديدة عن الفلسفة الإسلامية بعد درس اتجاهات الفلسفة الأوروبية منذ عصر الإغريق. وعندما اتجه لدراسة الأساس المنطقي لتكوين العلم، قدم نظرية في تفسير حساب الاحتمال، بعد أن عالج أخطاء التفكير الغربي في تفسيرها. وقد وظف هذه النظرية في مجالات متعددة، كما نجح في وضع أسس فهم نظرية المعرفة البشرية عندما اكتشف المذهب الذاتي للمعرفة، كما أنه ثار على نظرية القيام الأرسطية، وحدد التناقضات والأخطاء في الفلسفتين الماركسية والوجودية.. ويبقى مجال أصول الفقه دائرة تخصصه كعالم دين ينتمي الى بيئة علمية، يمثل لديه أحد العلوم الأساسية فيها.. لذا كانت إسهاماته واسعة في تطوير آرائه ونظرياته بعد أن استوعب تراث أسلافه، ومارس النقد على مبانيه وأسسه..
الاقتصاد الإسلامي
تطور الفقه على يد الإمام الصدر وارتقى الى القمة، حينما تحرك الاستدلال لديه نحو فقه النظرية، وهو شيء لم يسبقه فيه أحد من الفقهاء، فأفرز هذا الجهد العلمي صياغة نظرية في الاقتصاد الإسلامي، وأطروحة البنك اللاربوي في الإسلام. وبعد أن انتشر الكثير من الأحزاب العلمانية في عالمنا العربي والإسلامي، وكانت خيبة الشباب المؤمن كبيرة لعدم وجود فكر حركي منظم يلبي طموحاته أمام الأفكار الوافدة، أسس الإمام الصدر حزباً إسلامياً أطلق عليه (حزب الدعوة الإسلامية)، وضع له الأسس ورسم المنهج.. فانضمت إليه أعداد كبيرة من طلبة الحوزة العلمية، ومن طلاب الجامعات والنخب المثقفة، والأوساط الشعبية، فصنع مرحلة جديدة للنشاط السياسي الإسلامي وعودة الروح الى الوعي الديني الذي أشرق بالإسلام الحركي والفكر الديني الواعي.
العمل الحركي
وتحت ظلاله تفجر ينبوع العمل الحركي النسوي، فكانت آمنة الصدر، بنت الهدى، رائدته وينبوعه الذي يزخر بالعطاء والتضحيات. أما على مستوى المرجعية الدينية، فقد قدم الإمام الصدر أطروحة نظرية (المرجعية الصالحة أو الرشيدة)، كان يطمح لتطبيقها بغية انتشال المرجعية الدينية من الطابع الشخصي وتحويلها الى مؤسسة ترعى شؤونها الإدارية والمالية والتبليغية، وتعمل ضمن ضوابط وموازين تؤكد صدقيتها في الوسط الاجتماعي من خلال نخبة مثقفة، بعيداً عن الحواشي، تنهي حالة الفوضى والتلاعب والاستئثار بالأموال والإمكانيات بعد موت المرجع، وفق مقاييس لا تنتمي الى الشريعة الإسلامية، وتجافي تعاليم القرآن والسنة الشريفة، وتكرس الطبقية والفوارق الاجتماعية، كل ذلك باسم المرجعية، بينما هي عملية سطو سافرة وممارسات قد لا يعلم عنها المرجع شيئاً، لأن سعة أعماله وكثافة نشاطاته ربما لا تسمح له بالتدخل المباشر، أو ربما لا يعي حجم السلبيات التي تفرزها.
كان الإمام الصدر يعي دور المرجعية ويشخص ثغراتها الإدارية والمالية والسياسية، فكانت أطروحة جديدة تضع المرجعية أمام مسؤولياتها والتزاماتها أمام الشرع والناس.
كذلك أعاد الإمام الصدر صياغة الفكر الإسلامي صياغة فلسفية جديدة في أفق نقدي أقوى من فلسفة كل من الغزالي وابن رشد، وصاغ المفاهيم حسب متطلبات الشروط الجديدة للعقلانية، فكان واعياً بعمق بأنه لا يمكن اليوم استخدام مفاهيم مثل العقل والنقل والاجتهاد والانحطاط والتقدم خارج الإطار الفلسفي.