عادل الجبوري
لعل ضعف الثقة، أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها «ازمة الثقة»، كان العامل الابرز في بقاء الكثير من الملفات مفتوحة، والقضايا عالقة، والخطوط متشابكة، والعقد مستعصية بين المركز والاقليم، وضعف الثقة أو أزمة الثقة، ساهم في تكريس مظاهر «التغالب»، والاستقواء بهذا الطرف الاقليمي-الدولي أو ذاك لفرض الأمر الواقع، وتحقيق أكبر قدر من الامتيازات والمكاسب.
على مدى عقود عديدة، مرت العلاقات بين السلطات المركزية الحاكمة في بغداد من جهة، والقوى السياسية الكردية في شمال العراق من جهة أخرى، بالكثير من المحطات والمنعطفات الحرجة والخطيرة، التي طغت وهيمنت عليها الصراعات والمواجهات العسكرية المسلحة اكثر من اي شيء اخر، والتي حكمتها واثرت عليها ووجهتها بمقدار كبير، الاجندات والمصالح والحسابات الاقليمية والدولية، التي كانت في اغلب الاحيان تتقاطع مع الأجندات والمصالح والحسابات الداخلية.
ولا شك ان مشهد الصراع والمواجهة بين الطرفين، اخذ منحى مختلفا إلى حد ما بعد حرب الخليج الثانية والانتفاضة الشعبية في ربيع عام 1991، حيث تهيأت الظروف الملائمة للاكراد لكي يؤسسوا لهم وجودا سياسيا مستقلا بقدر معين، بعيدا عن هيمنة وسطوة المركز الدموية الاجرامية في حينه، وقريبا جدا إلى مجمل العمل السياسي المعارض لنظام صدام، بشتى عناوينه ومسمياته وتوجهاته، وبالتالي ليكون الاقليم الكردي احد ابرز ساحات النشاط السياسي والعسكري والاعلامي العلني المعارض، حيث كان ذلك تحولا نوعيا مهما بالنسبة للمعارضة العراقية عموما، والقوى الكردية على وجه الخصوص.
وما ان حلّ عام 2003، واطيح بنظام صدام عبر تحالف دولي واسع قادته الولايات المتحدة الاميركية، حتى دخل العراق بكامله في مرحلة-او حقبة-جديدة، بات فيها الاكراد شركاء حقيقيين وفاعلين ومؤثرين في الحكم وادارة شؤون البلاد، وطويت صفحات الصراعات العسكرية المسلحة، لتنفتح صفحات الصراعات السياسية بين الاكراد وشركائهم في الوطن من السنة والشيعة، والتي كانت في واقع الامر جزءا من عموم مشهد الصراعات السياسية المزمنة والمتواصلة بين الجميع. بيد ان المختلف فيها، كان في جانب منه مرتبطا بتراكمات الماضي الطويل. ورغم مرور اكثر من عشرين عاما على انبثاق النظام الديمقراطي الجديد في العراق، والعمل وفق مبدأ الشراكة، الا ان الحوارات بين بغداد واربيل لم تفضي إلى تفاهمات وتوافقات يعتد بها، ولم تتمخض عنها حلول ومعالجات جذرية للمشاكل والازمات القائمة، ولم تفرز وتحدد مساحات كل طرف بشكل واضح ومقبول.
ولعل ضعف الثقة، أو كما يحلو للبعض أن يطلق عليها «ازمة الثقة»، كان العامل الابرز في بقاء الكثير من الملفات مفتوحة، والقضايا عالقة، والخطوط متشابكة، والعقد مستعصية بين المركز والاقليم، وضعف الثقة أو أزمة الثقة، ساهم في تكريس مظاهر «التغالب»، والاستقواء بهذا الطرف الاقليمي-الدولي أو ذاك لفرض الأمر الواقع، وتحقيق أكبر قدر من الامتيازات والمكاسب. ولعل الحديث يطول ويتشعب إلى حد كبير، عند الخوض في الامثلة والمصاديق في هذا الجانب، لكن من المهم جدا الاشارة إلى حقيقة أن الإبقاء على نفس آليات الحوار وأدوات الصراع السياسي، يعني في ما يعنيه استمرار الدوران في حلقة مفرغة، وبقاء الامور متأرجحة بين فترات هدوء وتهدئة، وفترات تصعيد وتأزيم، قد تؤثر بها- سلبا أو ايجابا- ظروف البلد الداخلية، وظروف المحيط الاقليمي والفضاء الدولي إلى حد ما. يمكن للحوار بين بغداد واربيل أن يخرج من حلقته المفرغة ويتحرك في مسارات واضحة ومعبّدة، نحو افاق مفتوحة في ما لو استند إلى معطيات عملية وواقعية، لعل ابرزها:
*الدستور، الذي يعد الوثيقة الاهم للعقد السياسي والاجتماعي الذي تبانى عليه العراقيون، وهم يؤسسون لدولتهم الرشيدة ونظامهم الصالح، بعد تأريخ طويل من ويلات ومآسي الانظمة والحكومات الديكتاتورية الاستبدادية الظالمة. هذا الدستور الذي كان للاغلبية الشيعية والمكون الكردي الدور الاكبر في ايجاده. لا شك أن فيه الكثير من المخارج والحلول والمعالجات المناسبة للمشكلات القائمة واللاحقة.
*وقد يقول البعض، ان عموم الدساتير، تتضمن نصوصا قانونية جامدة، ربما لا تصلح وحدها لأن تكون حلا للازمات، وسبيلا لمعالجة الخلافات، اذا لم تكن الابعاد والجوانب الانسانية حاضرة في بعض الاحيان، كما هو الحال بالنسبة لقضية «رواتب موطني اقليم كردستان»، التي اقحمت بقصد أو من دون قصد في لجّة الصراعات والتقاطعات السياسية، ولتلقي بظلالها الثقيلة على اعداد كبيرة جدا من الناس البسطاء، علما ان الحكومة الاتحادية الحالية، بادرت إلى اتخاذ خطوات ايجابية، والمبادرة إلى حلول جزئية وقتية للتقليل من اسقاطات تلك الازمة، على أمل أن تفضي الحوارات المتواصلة إلى نتائج ملموسة ومثمرة.
*ومع وجود الدستور، وما يتضمنه من حلول ومعالجات، ومع استمرار الحوارات، فأن غياب الثقة، يبقى هو العائق والعقبة الكأداء امام اي افق جيد ونافع. بعبارة اخرى، ما لم تتوفر النوايا الحسنة والارادات الصادقة من كلا الطرفين، فان الحوار لن يغادر حلقته المفرغة، وسيكون اشبه بـ»حوار الطرشان»!.
*ولان القضايا متداخلة ومتشابكة، والملفات كثيرة، والرؤى والقناعات والتقديرات متباينة، فانه لا بد من التركيز على اكبر قدر من نقاط التوافق والالتقاء، وتجنب نقاط الافتراق، مع التأكيد على ان المؤشرات والمعطيات الراهنة في هذا الجانب مشجعة نوعا ما.
*والمسألة الاخرى، تتمثل في انه مثلما يراد ان تكون للحكومة الاتحادية رؤية موحدة وواضحة، لاتتجاذبها الحسابات الفئوية والحزبية الضيقة، فإن على حكومة الاقليم أن تبلور مواقف وتوجهات ورؤى موحدة ومنسجمة، تأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسي الكردي، ومدى تأثير تباين مواقف بعض قواه السياسية على مسارات ومعطيات واتجاهات الحوار مع بغداد.
خلاصة القول، الحلول للأزمات والمشكلات بين بغداد وأربيل، وإن كانت صعبة الا أنها ممكنة وغير مستحيلة، بتوفر النوايا الحسنة، والارادات الصادقة، والتقديرات الموضوعية لكل الامور، والانطلاق من حقيقة ان ضعف وتشرذم الاقليم لايخدم بغداد، والعكس صحيح ايضا.