مصافي نفط بدائيّة لمتنفّذين في كردستان العراق تضاعف الإصابات السرطانيّة

آخر تحديث 2024-05-02 22:24:05 - المصدر: بغداد اليوم

بغداد اليوم- بغداد

يتقلب يميناً وشمالاً في فراشه الموضوع على الأرض، ثم يمد قبضة يده اليمنى الى عنقه ويشدّها عليها، قبل أن يضرب بحركة سريعة أرضية الغرفة ويشير بأصابعه إلى قدح ماء موضوع على طاولة قريبة، ليسارع شقيقه في مناولته إياه.

بعد بضع رشفات من الماء، يقول عثمان محمد (42 عاماً) بكلمات متقطعة بالكاد تُفهم، إنه “ينزل كالتيزاب إلى حنجرتي”. يئن ميكانيكيّ السيارات المصاب بالسرطان، والذي يعيش في قضاء كلار شمال السليمانية، حيث تكثر المصافي النفطية البدائية، ويردد بعدما يسحب نفساً عميقاً محاولاً استخراج الكلمات “لم تعد لي قوة على مقاومته… هو لن يفارقني حتى يقتلني… لا مفر من ذلك”.

في النصف الثاني من العام 2018، وبشكل مفاجئ، أصيبت حنجرة عثمان بآلام غير معتادة، فأجرى على أثرها فحوصات طبية عدة تطابقت نتائجها، وأجبرت الأطباء على مواجهته بحقيقة إصابته بـ”سرطان الغدّة” من الدرجة الثانية.

هكذا انقلبت خلال أيام حياة “الأسطة عثمان” كما يُعرف في كلار، فالمرض جعل من مُصلِح السيارات المعروف في البلدة عاجزاً تماماً عن العمل، وحوّلته جلسات العلاج التي لا تنتهي إلى طريح أسرّة المستشفيات التي لا يكاد يغادرها.

أظهر التشخيص الدقيق، وجود 21 عقدة سرطانية خبيثة في عنقه، نجح في إزالة 19 منها بتدخلات جراحية معقدة، لتبقى عقدتان خبيثتان حجمهما (4-5 ملم) ما زالتا تهددان حياته، كما أخبره الأطباء.

منذ اكتشاف المرض، واصل عثمان “بإرادة قوية” رحلة العلاج الطويلة والمكلفة التي تابعها في ثلاث دول، هي تركيا وإيران والهند، لكنه كما يقول، يشعر بالإحباط مع عودته من كل رحلة علاج، حين تتراءى له سحب الدخان المتصاعدة من المصافي النفطية، والتي تشكل أحياناً سحباً تغلف منطقة سكناه بسمومها.

يقول دلير، وهو خريج جامعي يعمل سائق سيارة أجرة، رافقنا في جولة على مصافٍ نفطية في مناطق إدارة كرميان التي تتبعها كلار، إن هناك ثمانية حقول نفطية توزّع سمومها هنا. 

يضيف بصوت حاد، بينما يحكم إغلاق زجاج نافذة سيارته وهو يشير الى خيط دخان أسود يمتد في الأفق، “هذه بأدخنتها التي تملأ السماء هي من تقتلنا.. كيف يمكن أن يشفى المرضى وسط سحابات السموم التي تحيطهم؟”. يتمتم وهو يمسح العرق من على جبينه: “لم نلقَ منها غير الشر، حتى أراضينا الزراعية تضرّرت”.

عثمان ليس المصاب الوحيد في العائلة، بل هو الثامن، فإثنان من أشقائه الأصغر سناً مصابان، أحدهما يبلغ 43 عاماً والآخر 42 عاماً، بالإضافة إلى سبعة أشخاص من أبناء أشقائه وشقيقاته وأقربائه، كلهم يعيشون في البيئة القاتلة ذاتها كما يصفها: “لو أجريت فحوصات دقيقة على سكان المنطقة، لاكتشفنا حجم الكارثة التي نعيشها في ظلّ مصافٍ بدائية تبثّ سمومها بلا معالجات ليل نهار”.


ارتفاع سريع بالإصابات

في عام 2019، بلغت الإصابات الإجمالية لمرضى السرطان في إقليم كردستان 7831 حالة، وانخفضت الأرقام المسجّلة إلى 6293 خلال جائحة كورونا في عام 2020، وفقاً لوزارة الصحة في حكومة كردستان، مع تراجع زيارة المؤسسات الطبية وانخفاض حركة المركبات في الشارع.

لكن الإصابات المسجلة  في كردستان التي يُقدّر عدد سكانها بـ 6 ملايين نسمة، عادت لترتفع إلى أكثر من 8 آلاف حالة في عام 2021، و9 آلاف و61 إصابة في عام 2022، بينما شُخِّصت 9911 إصابة جديدة في العام 2023. 

بحسب المعايير الدولية، تُشخَّص 191 إصابة بالسرطان من كل 100 ألف شخص، وعلى رغم أن الإقليم يشخّص 151 إصابة من بين كل 100 ألف شخص، إلا أن تسجيل نحو 10 آلاف إصابة جديدة كل عام، ونسبة الزيادة السنوية التي لا تتوافق مع نسب زيادة السكان، يضعان الإقليم في وضع حرج، كما يقول متخصصون، في ظل قلة المستشفيات التخصصية وصعوبة الحصول على بعض العلاجات الضرورية. 

وتشير الإحصاءات الرسمية لوزارة الصحة في كردستان إلى تشخيص 81 ألفاً و62 إصابة منذ العام 2012 ولغاية العام 2023.

تقول مسؤولة السيطرة على مرض السرطان في وزارة صحة كردستان، الدكتورة جنار علي، إن المصابين بسرطان الثدي يتصدرون لائحة الحالات المسجلة في الإقليم، ومن بعده تأتي حالات الإصابة بسرطان القولون، ومن ثم سرطان الرئة، والجلد، والغدد اللمفاوية، والبروستات، واللوكيميا، وسرطان الدماغ، والشرايين، والغدة الدرقية، وسرطان الفم واللثة.


مناطق تركز الإصابات

يؤكد أطباء إن الفرز المناطقي البسيط للمصابين يكشف عن خارطة توزيع الإصابات في كردستان، والتي تؤشر الى تمركزها في مناطق تعاني من معدلات تلوث بيئي مرتفعة نتيجة انتشار الحقول والمصافي النفطية.

للتحقّق من تلك المعلومة، ومع صعوبة الحصول على المعلومات التفصيلية للمصابين ومناطق انتشارهم، في ظل عدم توثيقها بشكل دقيق ورفض بعض المؤسسات الصحية كشفها، أخذنا عينات عشوائية للمصابين المسجلين في مستشفى “هيوا” التخصصي بالسليمانية، وهو المركز الأكبر المتخصص في معالجة السرطان في إقليم كردستان.

ضمّت العيّنة 50 مصاباً بالمرض ومن كلَي الجنسين ومن جميع مناطق كردستان، وبواقع 30 رجلاً، 20 منهم أعمارهم أقل من 45 عاماً و10 أعمارهم أكثر من 45 عاماً، مع 20 امرأة، 10 أعمارهن أقل من 40 عاماً والأخريات أكثر من 40 عاماً.

شملت العينة محافظات إقليم كردستان الثلاث (أربيل، السليمانية، دهوك) وأظهرت النتائج، أن 96 في المئة من المصابين بالسرطان توجد حقول ومصافٍ نفطية قرب مناطق سكناهم وبمسافات متفاوتة. حالهم كحال الأسطة عثمان، إذ ينشط على مسافة من منزله في منطقة رزكاري بقضاء كلار، أحد الحقول النفطية.

وأظهر تحليل العينة، أن محافظة السليمانية تصدرت محافظات الإقليم بعدد الإصابات، وتلتها أربيل ومن ثم دهوك.

مصدر خطر آخر 

الى جانب انبعاثات المصافي النفطية التي تعمل خارج المواصفات، يحذر أطباء ومتخصصون في البيئة من المخاطر التي تحملها انبعاثات المولدات الكهربائية المنتشرة داخل الأحياء السكنية، والتي تسخدم وقود الديزل (الكازوائل) المصنوع محلياً وبمواصفات رديئة جداً.

يقول أحد العاملين في إنتاج تلك المادة، إنها تنتج في بعض المصافي البدائية، بخلط النفط الأسود ودهون السيارات منتهية الصلاحية مع مادة التيزاب ومكونات أخرى، ويتم اختيار الأنواع الأقل سعراً، وبالتالي الأردأ نوعية سعياً الى خفض الكلفة.

يحدث ذلك في ظل غياب الرقابة البيئية التام على إنتاج تلك المصافي وعلى انبعاثات مولدات الكهرباء المنتشرة داخل الأحياء السكنية، نتيجة استحالة الاستغناء عن عملها نظراً الى عدم قدرة المؤسسات الحكومية على تأمين الكهرباء لأكثر من 12 ساعة يومياً.

وهناك مصدر آخر للتلوث، يتمثل في بنزين السيارات المُنتجة من تلك المصافي، وبوجود أكثر من مليوني سيارة في كردستان، تستخدم غالبيتها وقوداً رديئاً وعالي الخطورة على الصحة.

يقول الخبير الاقتصادي الدكتور كاروان حمه صالح، إن مادتي البنزين والكازوائل، المستخدمة لتشغيل السيارات والمولدات، بمواصفاتها الرديئة المنتجة من دون رقابة، تحملان، ومن دون أي شك، أضراراً بيئية وصحية خطرة.

ويوضح أن أكثر من 90 في المئة من مادة الكازوائل المستخدمة في تشغيل المولدات، تنتج في المصافي بخلط النفط الخام مع دهان السيارات، والمادة التي تسمى محلياً بـ”نفطه”، ثم تضاف إليها مادة التيزاب لتحويل لونها من البني الى الأصفر ومن ثم تسويقها.

تعمل خلافاً للقانون

ظهرت في إقليم كردستان مئات المصافي النفطية المتوسطة والصغيرة، خلال السنوات العشرين الماضية، الى جانب المصافي الكبيرة المملوكة لمتنفّذين في الأحزاب الحاكمة. المصافي الأصغر حجماً والأقل إنتاجاً اختفت في السنوات العشر الأخيرة، بينما استمرت الأخرى، والتي يقدر برلمانيون سابقون عددها حالياً بأكثر من 200 مصفاة. 

معظم تلك المصافي تعمل من دون رخص قانونية رسمية، لكنها تشتري النفط من الحكومة وتكرّره بطرق بدائية لا تلتزم بمواصفات الإنتاج العالمية حتى في حدّها الأدنى، ولا تطبق شروط الصحة والسلامة العامة، لا من حيث الموقع الجغرافي ولا من حيث طريقة العمل.  

في أربيل، تنتشر تلك المصافي في نواحي قوشتبة وكوير وشمه مك. وفي السليمانية، تنتشر في منطقة “تانجرو” جنوب شرقي المحافظة. وفي دهوك، تتركز في منطقة “كاشي” غرب المحافظة.

مع ظهور هذه المصافي، بما تطرحه من ملوثات في الهواء وما تنتجه من مشتقات رديئة، بدأت أرقام الإصابات بالسرطان تتضاعف، بحسب كوادر في مؤسسات طبية ومنظمات معنيّة بالبيئة. 

يؤكد معروف مجيد، رئيس منظمة “آينده” لحماية البيئة، أن الكثير من تلك المصافي يعمل خارج السياقات القانونية، مبيناً أنه وفق قانون رقم (8) لسنة 2008 الخاص بحماية البيئة وتحسينها في كردستان، فإن أي شركة أو مشروع يتسبّب بوقوع تلوث بيئي يجب أن يدفع تعويضاً لمناطق المتضررة، معرباً عن أسفه لعدم تطبيق ذلك بنحو شبه كلي.

وينبه رئيس المنظمة الى واحد من المشاكل التي تخلفها تلك الصناعة غير المراعية للبيئة والصحة العامة، وهو نقل المشتقات النفطية بسيارات حوضية غير مؤهلة وبطرق تقليدية ما بين المحافظات والمناطق المختلفة، لا سيما في جمجمال ودربنديخان في السليمانية، مشيراً الى حادثة اصطدام حصلت في مطلع نيسان/ أبريل في قضاء دوكان، أدت الى تسرب النفط المنقول إلى مياه الشرب، ما تسبّب بتلوثها، وبالتالي قطع مياه الشرب لأيام عدة عن الكثير من مناطق المحافظة.

ملوّثات في الماء والهواء

في كردستان، توجد ملوثات كثيرة في الماء أو التربة أو الهواء، والأخير بخاصة يعاني من ارتفاع في أكاسيد الكبريت والنايتروجين والكربون والهايدو كاربونات الناتجة من العمليات المصاحبة لاحتراق الوقود في المصافي والحقول النفطية ووحدات إنتاج الطاقة والمعامل التي تعتمد على حرق الوقود، وفقاً للخبير في علوم البيئة التدريسي في جامعة كرميان الدكتور عبدالمطلب رفعت سرحت. الى جانب ملوثات أخرى مثل أدخنة حرق المخلفات الصلبة بطرق بدائية، وما يطرحه أكثر من مليوني سيارة تشتغل في الإقليم. 

يقول سرحت إن “تلك الملوثات تساهم في زيادة انتشار أمراض السرطان وبعض الأمراض الأخرى”، مؤكداً الأمر ذاته رئيس لجنة الطاقة والموارد الطبيعية في البرلمان السابق لإقليم كردستان علي حمه صالح، الذي يقول إن المصافي ومادة الكازوائل المُستخدمة في تشغيل المولدات داخل الأحياء، “زادتا وبنسب كبيرة من التلوث البيئي، الذي ضاعف معدلات الإصابة بالسرطان خلال السنوات الأخيرة”.

يوضح صالح، اعتماداً على مسوحات وبحوث علمية اطلع عليها: “في عام 2016، كان يتم تسجيل 12 إصابة جديدة بالمرض يومياً، لكنها ارتفعت إلى 41 إصابة يومية في نهاية العام 2022″، متوقعاً أن تصل إلى “100 حالة يومياً خلال السنوات المقبلة في حال بقيت مصادر التلوث من دون حلول”.

يؤشّر النائب الكردي السابق الى ما يصفه بحالة “الفساد الصادمة” في عمل مصافي النفط غير الرسمية، من خلال إنتاج زيت الكازوائل بمواصفات رديئة للمولدات الكهربائية، بينما يتم تهريب مادة الكازوائل المطابقة للمقاييس العالمية من المصافي الرسمية مثل “لاناز، بازيان، وكه لك” إلى خارج الإقليم.

وينبّه صالح الى المخاطر الصحية الكبيرة لآلية الإنتاج المعتمدة، “يتم يومياً خلط نحو 5 ملايين لتر من مادة النفط الأبيض مع مخلفات أدهان السيارات مع بعض المواد البتروكيمياوية”.

في عام 2022 ومع تزايد الشكاوى التي وصلت إلى نواب في البرلمان الكردستاني بشأن التلوث، كلّف حمه صالح مجموعة من المتخصصين بإجراء بحوث مختبرية على عينات من هذه المنتجات وفي مختبرات متطوّرة في تركيا.

النتيجة التي ظهرت كانت “صادمة جداً” كما يقول صالح: “هي غير صالحة للاستخدام إطلاقاً”، مشبهاً استخدامها في تشغيل المولدات بما يشبه “وضع السم في المجاري التنفسية لمواطني الإقليم”.

تُصرف مخلّفاتها الى التربة

يشدد الدكتور عبدالمطلب رفعت سرحت، على أن تلك المواد حوّلت أرض كردستان إلى مركزٍ لانتشار الأوبئة والأمراض المُزمنة والخطرة.

يوضح: “يحدث ذلك من خلال تطاير غازات أول أوكسيد الكاربون، ثاني أوكسيد الكاربون، ميثان، كبريتيد الهيدروجين، الكبريتات، أوكسيدات النتروجين، بالإضافة إلى مكونات الخام الأسود والأبخرة، والتي يستنشقها المواطنون”.

يضيف الخبير في علوم البيئة، “أما القسم الآخر فيتعلق بالمحاصيل المزروعة والتربة بالإضافة الى امتزاجها بالمياه السطحية وتسرّبها الى المياه الجوفية، وبالتالي تدخل السلسلة الغذائية، ما يُشكل عاملاً إضافياً للإصابة بالأمراض”.

ويُشير إلى أن القانون العراقي يحظر حرق الغاز على بعد ستة أميال من المناطق السكنية، “إلا إن الحقول والمصافي في غالبيتها لا تلتزم بتلك المسافة، وهي لا تعتمد الطرق والأساليب العلمية في التخلص من مخلفاتها، إذ يتم تصريفها الى التربة بما في ذلك المعادن الثقيلة المعروف بأنها مسبّبة للسرطان كالزئبق والرصاص والزرنيخ، والتي توجد في المخلفات النفطية بكميات كبيرة”.

يؤكد سرحت خطورة مخالفة المصافي للشروط الأساسية لإنشائها، وأهمها الابتعاد من المناطق المأهولة بالسكان وعدم إنشائها على أراضٍ زراعية، فضلاً عن التزامها بمواصفات الإنتاج العالية.

يقول سرحت إن السنوات الأخيرة شهدت زيادة كبيرة في الجسيمات الصلبة المتناهية الصغر (PM2.5)، وهذه الجزيئات عندما ترتفع مستوياتها في الجو تزداد مخاطرها، مبيناً أن مصافي النفط هي أحد مصادرها الرئيسية: “تظهر هذه الجسيمات في الجو وتخترق الجهاز التنفسي مسببة تحسّسهُ، وتدخل غالباً في مسار الدم عن طريق الحويصلة الهوائية لتزداد خطورتها وتصل الى التسبب بالإصابة بسرطانات الدم والجهاز التنفسي”.

أرباح بأكثر من مليار دولار

توجد أربع مصافٍ رسمية في كردستان، اثنان منها (كه لك، ولاناز)، يقعان بالقرب من مدينة أربيل، بينما تقع مصفاة “بازيان” في محافظة السليمانية، ومصفاة “تاوكي” في محافظة دهوك. وتدير المصافيَ الثلاث الأولى شركات حزبية كردية، والرابعة تدار من شركة نرويجية.

يؤكد الرئيس الأسبق للجنة الطاقة في مجلس محافظة السليمانية (2014-2018) وعضو لجنة النفط والغاز في الدورة الرابعة لمجلس النواب العراقي (2018-2021)، الدكتور غالب محمد، أن المصافي الرسمية في الإقليم تنتج مادتي البنزين والكازوائل بمواصفات عالية، لكنّ جزءاً كبيراً من منتوجها يصدّر الى خارج الإقليم.

وبينما يصدر الإنتاج ذو النوعية الجيدة، فإن الرديء يباع في كردستان ليحقق لأصحاب المصافي “أرباحاً طائلة”، بحسب النائب محمد، الذي يقدر الأرباح السنوية للمصافي غير الرسمية، بأكثر من مليار دولار “تذهب الى جيوب المُتنفّذين وأصحاب القرار”.

يكرر محمد ما يردده نواب ومتخصصون، بأن هذه المصافي “تنتج مواد مُسرطنة ومحظورة، وأنها مسؤولة عن ازدياد نسب الإصابات في كردستان”.

ويُشير إلى ما يصفه بـ” الضرر الأخطر” على حياة المواطنين المتمثل بالتخلص من مخلفات المصافي بإلقائها في التربة أو الأنهر، كنهر سيروان أحد روافد نهر دجلة، والذي تصب مياهه في سدّ دربنديخان في محافظة السليمانية، ويؤمن ما نسبته 75 في المئة من المخزون المائي للسد، كما يغذي مساحة أكثر من 200 ألف كم من الأراضي الزراعية. 

وتعد مياه سدّي دوكان ودربنديخان اللذين يعانيان من الملوثات، من المصادر الرئيسية لتأمين مياه الشرب للمواطنين في مناطق السليمانية والأقضية والنواحي التابعة لها.


تزداد رغم عدم قانونيتها

حسن كوباني (40 عاماً) الذي يعيشُ في منطقة إدارة كرميان ضمن محافظة السليمانية، وهو أحد مرضى سرطان الغدة في الإقليم، يُحمّل الملوثات التي تخلفها مصافي النفط في منطقته مسؤولية إصابته وبعض أقاربه بالمرض. إذ تشير أرقام المؤسسات الصحية الى تزايد أعداد الإصابات هناك مقارنة بباقي المناطق.

كان كوباني عنصراً في قوات البيشمركة الكردية، قبل أن يحال إلى التقاعد إثر إصابته بقذيفة صاروخية خلال مواجهة حصلت مع مقاتلي تنظيم “داعش” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 بمنطقة “كوباني” في شمال سوريا، حيث كان ضمن أول وحدة عسكرية للبيشمركة تدخل المنطقة لمساعدة سكانها على مواجهة التنظيم، ومن هناك حمل لقبه.

تلك الإصابة أقعدت كوباني نتيجة تناثر 12 شظية في أنحاء مختلفة من جسمه، لكن معاناته ازدادت أكثر بعد إصابته بالسرطان في عام 2021، وهو المرض ذاته الذي أصيب به أحد أشقائه أيضاً.

من بين أكثر من 200 مصفاة نفطية في كردستان تعمل بطرق غير رسمية، يكشف عضو اللجنة المالية في برلمان الإقليم السابق عمر كولبي، عن “وجود نحو 100 منها في أربيل، ويوضح أن من بين 30 مصفاة، ثلاثة منها فقط حاصلة على موافقة دائرة البيئة، والبقية غير مطابقة للمواصفات والشروط المطلوبة”.

لكنّ عضواً في مجلس محافظة أربيل، رفض ذكر اسمه لأسباب خاصّة، يقول إن عدد المصافي غير الرسمية في أربيل كان نحو 106 مصافٍ في عام 2015، وإزداد إلى نحو 140 خلال السنوات الـ 6 الماضية، تقع في غالبيتها خارج المدن على الطريق الرابط بين أربيل وقضاء كوير وبين أربيل ودهوك.

تؤمن تلك المصافي حاجات 2200 مولد كهربائي منتشرة في الأحياء السكنية بمحافظة أربيل، وفقاً لإحصاء حصل عليه مُعدّ التحقيق من رئيس مجلس مولدات أربيل قارمان مولود.

وفي السليمانية، يتجاوز عدد المولدات الكهربائية الـ2000 مولد، تعد المُستهلك الرئيسي لمنتوجات مصافيها. وتحتاج المحافظة يومياً الى نحو 3 ملايين و300 ألف لتر من مادة الكازوائل لتغطية احتياجاتها في تشغيل المعامل والمصانع والمرافق الأخرى المتعددة، و ومليونين و200 ألف من البنزين.

أمّا محافظة دهوك، فتوجد فيها 44 مصفاة ومخزناً ومستودعاً للنفط والوقود، منها 36 غير مرخصّة، حسب كولبي، وتقع في منطقة “كاشي” وتعمل غالبيتها خارج التعليمات الواجب توافرها لشروط سلامة السكان القريبين والحفاظ على البيئة.

يؤكد مصدر حكومي في دهوك، أن جزءاً من هذه المصافي البدائية، وبعد شكاوى متكررة من السكان، أوقف عن العمل نهاية عام 2022، مع عدم تسليمها مادة النفط الخام من وزارة الثروات الطبيعية في حكومة كردستان. لكن مصادر محلية ذكرت إن غالبية تلك المصافي عاودت العمل، وهي تفعل ذلك بعد كل فترة توقّف.

ويبلغ إجمالي عدد المولدات الكهربائية في محافظة دهوك نحو 5 آلاف مولد، بما فيها المستخدمة في جميع المرافق الأهلية والحكومية، منها 2100 مولد داخل الأحياء السكنية، وفقاً لممثل جمعية المولدات الأهلية في دهوك هكار هيروري.

وتحتاج محافظة دهوك يومياً الى نحو مليونين و200 ألف لتر من مادة الكازوائل لتغطية احتياجاتها اليومية في تشغيل المعامل والمصانع والمرافق الأخرى المختلفة، والى مليون و800 ألف لتر من مادة البنزين لتغطية احتياجاتها المتعدّدة. 


وعلى الرغم من الشكاوى التي لا تتوقف عن رداءة الوقود المستخدم في كردستان وعن مخاطره الصحية وفق متخصصين، فإن إنتاج تلك المصافي يأخذ طريقه الى المولدات والسيارات، بعيداً من أي محاسبة، في ظل ما يسميه النائب السابق علي حمه صالح “الفساد المنتشر” والذي يعطل إجراءات فحص المادة في المختبرات المعنية لأن الفحوصات ستثبت “عدم مطابقتها لمتطلبات السلامة”.

وباحتساب كمية مادة الكازوائل المُستخدمة في تشغيل المولدات المُنتشرة داخل الأحياء السكنية فقط والبالغة نحو 6 آلاف و 300 مولد، والتي تعمل لأكثر من 12 ساعة في اليوم الواحد خلال فصلي الشتاء والصيف، ومع استهلاك المولد الواحد في كل ساعة تشغيل، الى أكثر من 150 لتراً، يظهر لنا أن إنتاج تلك المصافي من الوقود الرديء الذي يلوث الهواء والتربة، يزيد على 11 مليون لتر يومياً لتغطية حاجة المولدات، عدا عن متطلبات المعامل وبعض المنشآت الأخرى، فيما يستهلك الإقليم نحو 5 ملايين لتر من البنزين، معظمها يُنتج من مصافٍ بدائية لا تخضع منتوجها للمواصفات المطلوبة.

يحدد الخبير في شؤون النفط والطاقة بهجت أحمد، أسباب رداءة البنزين المنتج والمستخدم في الإقليم، مبيناً أن أربع مصاف فقط في كردستان تمتلك وحدة الأزمرة الخاصة بتحويل مادة “النفطه”، وهي المنتج الأولي بعد تصفية النفط الخام، الى بنزين بنوعيات مختلفة الجودة، من العادي الى المُحسن أو السوبر.

ويقول، “لا تمتلك باقي مصافي الإقليم وحدة الأزمرة، لذا يشتري التجار مادة “النفطه” من المصافي الصغيرة ويخلطونها مع مواد أخرى تستورد من إيران تُعرف بـ”المحسنات”، وتعتمد نوعية الوقود المنتج على نسبة المواد المحسنة الداخلة، فخلط 25 في المئة من المحسنات مع مادة “النفطه” ينتج البنزين العادي، وترتفع النوعية مع زيادة النسبة، لكن ذلك يعني رفع تكلفة سعر اللتر الواحد، لذلك نجد أن معظم المنتوج رديء النوعية”.


قرارات إغلاق وفشل في التنفيذ

مع الكوارث البيئية التي تسبّبها، صدرت قرارات حكومية كثيرة لغلق المصافي غير الرسمية في كردستان خلال السنوات الماضية، لكنها فعلياً لم تطبق إلا بشكل محدود، حسب مسؤولين حكوميين، لوقوف جهات مُتنفّذة وراءها وما تُحققه من واردات شهرية يصل بعضها إلى ملايين الدولارات.

ففي 15/9/2015، أصدر وزير الثروات الطبيعية في حكومة الكابينة الثامنة بكردستان (2014-2019) آشتي هورامي، قراراً بغلق أكثر من 160 مصفاة غير مُجازة تعمل بعيداً من متطلبات وشروط السلامة المطلوبة.

وفي 16/10/2018، وجه وزير الداخلية السابق في حكومة الإقليم كريم سنجاري، إنذاراً إلى إحدى مصافي النفط في دهوك، بإغلاق المصفاة وإزالة مخلفاتها خلال مدة أقصاها 60 يوماً، وبخلافه يعرّض صاحبه للمحاسبة القانونية.

لكن عضواً في مجلس محافظة دهوك، فضل عدم ذكره اسمه لأسباب خاصّة، أكد غالبية المصافي غير الرسمية استمرّت بالعمل حتى بعد صدور هذا الإنذار وغيره من الإنذارات.

وفي العام 2018، أصدر مجلس النفط والغاز في حكومة إقليم كردستان، قراراً بغلق جميع المصافي غير الرسمية وغير المُجازة، لكن القرار لم يأخذ طريقه للتنفيذ.

في 24 آذار/ مارس 2019، أعادت وزارة الداخلية في حكومة الإقليم المحاولة مجدداً بكتابها ذي الرقم (5436) لتنفيذ قرار إغلاق المصافي غير الرسمية، على أن تدعم بتشكيل قوة أمنية مشتركة من أطراف عدة، قوامها نحو 50 ضابطاً وموظفاً في كل محافظة من محافظات الإقليم.

لكن ذلك التوجه عجز أيضاً عن إغلاق المصافي، وفقاً لنواب في البرلمان الكردستاني.


إلحاقاً بالكتاب السابق، تكشف وثيقة صادرة في 18/6/2019 وبتوقيع وزير الداخلية السابق كريم سنجاري، عن تخصيص 200 مليون دينار عراقي لمتابعة عملية إزالة جميع المصافي غير القانونية، ومن خلال تشكيل لجنة عليا ولجان فرعية في كل محافظة.

إلا أن مسؤولاً رفيع المستوى في وزارة الداخلية، رفض ذكر اسمه لحساسية وظيفته، قال إن أعمال اللجنة المذكورة “لم تر النور بسبب التدخلات الحزبية، وفشلت في تطبيق قرار وزارة الداخلية بإزالة المصافي غير الرسمية”.


المصدر: التحقيق انجز تحت إشراف شبكة (نيريج) ضمن مشروع قريب المدعوم من CFI