عبدالمنعم السلمان*
العراق اليوم يقف في وجه عاصفة من الفضائح والاتهامات المتبادلة، مشابهة لما شهدته إيطاليا في التسعينيات خلال تحقيقات "ماني بوليتي" أو "الأيدي النظيفة"، التي هزت النظام السياسي الإيطالي وقادت إلى انهيار الجمهورية الأولى، وهذه التحقيقات كشفت آنذاك عن حجم الفساد المنتشر في قلب السلطة، مما أدى وبوضوح إلى انتحار بعض السياسيين وقادة الصناعة، واندثار العديد من الأحزاب السياسية القديمة. واليوم، يبدو أن العراق يعيش لحظة مشابهة، ولكن على نحو أكثر تعقيدًا وخطورة.
وفي قلب هذه العاصفة تأتي فضيحة "سرقة القرن" الشهيرة، بعد الكشف عن سرقة مليارات الدولارات من أموال الأمانات الضريبية. حجم الأموال المسروقة وأسماء الشخصيات المتورطة في هذه القضية جعلتها من أكبر فضائح الفساد في تاريخ العراق الحديث. الأطراف السياسية التي كانت تتبادل الولاءات في الماضي، أصبحت اليوم تتقاذف الاتهامات فيما بينها، وكأن كل طرف يحاول النجاة على حساب الآخر.
من ناحية، يصر بعض الساسة على أن هذه الاتهامات لا تمثل إلا محاولة لتصفية الحسابات داخل العملية السياسية نفسها. بل إن البعض يذهب إلى القول بأن ما يشهده العراق اليوم من تقاذف للاتهامات وإهانة لسلطات بأكملها، أخطر من الإرهاب نفسه. فالتوترات السياسية الناتجة عن هذه الفضائح قد تزعزع استقرار البلاد بشكل أكبر مما فعله الإرهاب على مدى السنوات الماضية.
في الوقت نفسه، ظهرت فضائح أخرى تعكس حجم الفوضى السياسية والفساد المؤسسي. فضيحة شبكة التنصت في مكتب رئيس الوزراء هي مثال آخر على انعدام الثقة بين أركان السلطة، حيث أصبحت المعلومات الحساسة أداة للتلاعب السياسي بدلاً من استخدامها في خدمة الشعب.
أضف إلى ذلك، التعامل الوحشي مع المتظاهرين ومحاولات استفزازهم بطرق مختلفة، يشير إلى أن هناك من يحاول خلط الأوراق بشكل متعمد. الهدف الواضح من هذه التحركات هو خلق جو من الفوضى وعدم الاستقرار، لتهيئة الأجواء لفرض تغييرات سياسية قد تكون خطيرة على مستقبل العراق.
ومع تصاعد هذه الأزمات، بات الحديث عن النظام الرئاسي يتزايد في العراق. هناك من يرى أن هذه الفوضى المتزايدة ليست إلا محاولة لتوجيه البلاد نحو هذا النظام، الذي يخشاه الكثيرون نظرًا لما قد يحمله من مركزية مفرطة في السلطة. النظام الرئاسي قد يبدو حلاً للبعض، باعتباره نظامًا يوفر استقرارًا سياسيًا ويقلل من الفوضى التشريعية، ولكنه يحمل في طياته مخاوف جدية من تعزيز سلطة الفرد الواحد على حساب المؤسسات الديمقراطية الأخرى.
قد يكون الترويج للنظام الرئاسي أحد الأسباب وراء تفاقم هذه الفضائح، حيث يحاول البعض خلق حالة من الفوضى لتبرير الحاجة إلى نظام حكم أكثر قوة وصلاحيات أوسع لرئيس الدولة. ولكن، وكما حدث في "ماني بوليتي" في إيطاليا، فإن الانغماس في فضائح الفساد والقضاء على الثقة بين الشعب والحكومة يمكن أن يؤدي إلى انهيار النظام بأكمله، بدلاً من إنقاذه.
إن العراق اليوم يقف على مفترق طرق خطير. إذا لم تعالج هذه الفضائح بشكل جدي وشفاف، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار النظام السياسي القائم، تماماً كما حدث في إيطاليا خلال التسعينيات. ما نراه اليوم هو مؤشر واضح على أن النظام السياسي العراقي أصبح غير قادر على التعامل مع حجم الفساد الموجود في قلب السلطة. الاتهامات المتبادلة لا تؤدي إلا إلى تعميق الأزمة وإضعاف مؤسسات الدولة، مما يجعل العراق أكثر عرضة للفوضى الداخلية والتدخلات الخارجية.
وفي هذا السياق، يجب أن نتذكر ما حدث في "ماني بوليتي" الإيطالية: تحقيقات الأيدي النظيفة كشفت عن حجم الفساد وأدت إلى زوال العديد من الأحزاب والمؤسسات السياسية القديمة. هل نحن على أعتاب لحظة مماثلة في العراق؟ هل يمكن لهذه الفضائح أن تكون بداية لنظام سياسي جديد، أكثر شفافية ونزاهة، أم أن العراق سيغرق في فوضى أكبر؟
وفي هذه اللحظات الحرجة، لا يمكن للعراقيين أن يبقوا صامتين أو مكتوفي الأيدي. ثمة حاجة ملحة لإصلاح النظام السياسي من الداخل، قبل أن تنهار كل مؤسساته تحت وطأة الفساد والاتهامات المتبادلة. الحل لا يكمن في الانتقال السريع إلى النظام الرئاسي، بل في تعزيز سيادة القانون ومكافحة الفساد بكل الوسائل الممكنة.
إنها لحظة مشابهة لما شهدته إيطاليا في التسعينيات، حيث كان الفساد متجذرًا في قلب السلطة، ولكن الشعب والقضاء استطاعوا في النهاية تحطيم هذه الشبكات الفاسدة. العراق بحاجة إلى "أيدٍ نظيفة" جديدة، إلى قيادات تحمل على عاتقها مسؤولية إعادة بناء الثقة بين الشعب والحكومة.
في الختام، يمكن القول إن العراق يواجه اليوم اختبارًا حقيقيًا: إما أن يتمكن من مواجهة الفساد المتفشي في النظام السياسي، وإما أن يغرق في دوامة من الفوضى وانعدام الثقة. إذا كانت فضائح مثل "سرقة القرن" وضرب المتظاهرين ومحاولات التلاعب السياسي تهدد مستقبل البلاد، فإن الحل يكمن في الشفافية، والإصلاح الجذري للنظام، ودعم مؤسسات الدولة الحقيقية. وكما قال المفكرون القدماء: "البلد الذي يُحكم بلا عدالة، هو بلد يُحكم بلا أمان".
*باحث سياسي