رواية "أربعة وسبعون" توثق مجزرة الإيزيديين في شنكال

آخر تحديث 2024-09-18 17:00:07 - المصدر: اندبندنت عربية

مشهد من خراب سنجار (أ ف ب)

على رغم قلة الروايات الميدانية في العالم العربي، فإنها تعد رائجة نوعاً ما في أوروبا وأميركا. تأتي رواية "أربعة وسبعون" للشاعرة والروائية والصحافية الألمانية  الإيزيدية الأصل رونيا عثمان ضمن هذا السياق، فتسجل من خلالها، ميدانياً، ما تعرض له الإيزيديون من أهوال الإبادة الجماعية والاسترقاق والتنكيل، أوقعها تنظيم "داعش" في حق أبنائهم العزل في شهر أغسطس (آب) عام 2014 في "شنكال"، مدينة سنجار، الواقعة في كردستان العراق.

من جهة أخرى، بدا الأمر، مع صدور هذه الرواية، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الأدب الألماني هذا العام، التي تعد من أهم الجوائز الأدبية في الدول الناطقة باللغة الألمانية، وكأنها صدرت لمناسبة مرور عقد من الزمن على وقوع تلك المذبحة.

فرمانات المجازر

ظل الإيزيديون حتى الآن وفي شكل ما جماعة أو طائفة غامضة للعامة بالنسبة إلى أصول ديانتهم وكتبهم المقدسة وترتيب المقدسات والشيوخ عندهم، وإصرارهم على الاعتزال والاختباء، فكرياً ودينياً وفيزيولوجياً، عن الآخرين، مما أشاع حولهم كثيراً من القصص والخرافات والأكاذيب.

لكنهم يبقون جماعة تعرضت لكثير من الاضطهاد والمذابح، بخاصة، على يد الجماعات والقبائل في جوارهم، مثل الصفويين والعثمانيين، وكذلك القبائل العربية والكردية. وأطلقت تسمية "فرمان" على كل أمر يصدر بتهجيرهم أو قتلهم، ويذكر التاريخ 73 فرماناً أو مذبحة وقعت بحقهم، قبل الإبادة التي ارتكبها تنظيم "داعش" في حقهم في عام 2014. و"الفرمان الأخير" الرقم "74" يمثل عنوان هذه الرواية التي لاقت ترحيباً جيداً من النقاد والإعلام الألماني، وقت صدورها عن دار "روفولت" في مارس (آذار) من هذا العام، ومن ثم نيلها جائزة مدينة دوسلدورف الألمانية، البالغة قيمتها المادية 20 ألف يورو.  

عنوان الرواية "أربعة وسبعون" يدل على الرقم الأخير من سلسلة المذابح التي تعرضت لها "الجماعة الإيزيدية"، إذا جاز التعبير، في أزمنة مختلفة وعلى يد جماعات مختلفة، حاولت إبادتهم، في كثير من الأحيان، عن بكرة أبيهم. وكانت الفرمانات الستة صدرت عن السلطان العثماني سليمان خان القانوني في عام 1570.

 نهاية العالم

"كنت أظن دائماً أن النهاية ستحدث، عندما تسقط السماء على الأرض. في الثالث من أغسطس (آب) 2014 لم تسقط السماء على الأرض، وعلى رغم ذلك كانت النهاية". قالت لرونيا امرأة من مخيم النازحين في "شاريا"، لتكون افتتاحية لهذه المأساة الضخمة.

من الطبيعي أن تبدأ الرواية أحداثها في أغسطس 2014، ومن بعدها تعود رونيا إلى أزمنة مختلفة، فتجعل مقدمة الرواية تقتصر على خمس صفحات، تتحدث خلالها عن لقاء مع شيخ (كبير) طائفتها، وهو يروي قصصاً متتالية ومرعبة عما حدث في شنكال. طفل في السابعة من عمره قطعوا رأس والده أمامه، ثم سأله أحد القتلة وهو يحمل رأس القتيل: "لقد رأيت بنفسك ماذا فعلنا بوالدك، وعليك أن تقرر الآن، هل ستعتنق الإسلام؟"، ثم حكى الشيخ قصة ثانية وثالثة ورابعة، والحاضرون من حوله يبكون، وهو يروي فحسب، ويتمهل عند التفاصيل المرعبة، إلى أن يتوقف قليلاً ويقول: "أستطيع أن أقص عليكم، ولمدة 24 ساعة متتالية، مئات القصص المرعبة من دون توقف".

وهذه الجملة بالضبط ما اشتغلت عليها رونيا في الفصول والصفحات اللاحقة، لينتقل القارئ بين عشرات القصص والأماكن، لدرجة يظن بأن هذا الكتاب لن يكون له نهاية.

بعد تلك المقدمة القصيرة تعود الكاتبة إلى رحلتها في الطائرة، عندما قررت العمل على هذه الرواية، إلى شمال العراق، في يوم من أيام يونيو (حزيران) من عام 2018، ليذكرها لهيب الصيف برحلتها الأولى وهي في الثالثة من عمرها، عندما زارت مسقط رأس عائلة والدها في سوريا لتتعرف إليهم.

رواية تسجيلية ميدانية

خلال 500 صفحة تستفيد رونيا عثمان من تقنيات عملها في الصحافة، واهتماماتها السينمائية، فجاءت الرواية على صورة ريبورتاج صحافي طويل، اعتمدت فيه على مقابلات أجرتها بنفسها مع عدد من الناجين من تلك المذبحة، التي أدت إلى مقتل ما يزيد على 5 آلاف شخص، ونزوح 200 ألف شخص، واختطاف ما يقارب 6500 امرأة ورجل. ولو فكر أحدنا في هذه الأعداد الهائلة، لوجد أن كل قصة من تلك القصص تصلح أن يكتب المرء عنها رواية كاملة. ولكن هذا "الكتاب" استطاع أن يجمع بينها من خلال خيوط كثيرة، حاولت رونيا عثمان جاهدة أن لا تفلت من بين يديها. وهذه الخيوط حركتها رونيا بالحوار مرة، وبالوصف السينمائي المتقطع والمتنقل بين قصص مختلفة، تنتمي إلى أزمنة مختلفة، في الوقت ذاته، وبالإثارة الصحافية التي كانت لا تخلو من العاطفة في كثير من الأحيان، في مرات أخرى.

لكن ما يجعل هذه الرواية كتاباً، وهو ربما تعريف مقبول لمصطلح الرواية الميدانية، اعتماد رونيا عثمان على محاضر الشرطة المحلية والدولية، وتقارير الأمم المتحدة ووزارات الداخلية في كردستان العراق وتركيا، وعلى محاضر أقوال الشهود والمحققين في جلسات المحاكمات التي جرت في العراق وتركيا وألمانيا.

تستعمل الكاتبة فعلين للإيضاح والتقسيم والكتابة: أقرأ" و"أكتب". وهي كذلك تذكر اسمها الشخصي داخل الرواية، عندما يتم الحوار معها، كما تورد أسماء الشهود الأولى، والحرف الأول من الكنية، والأرقام والتواريخ التي تحملها الوثائق أو البرامج التلفزيونية. كما أنها تورد في نهاية "الرواية"، بعد توجيه الشكر للشهود والعائلة والأقارب وكل الذين حموها "في تنقلاتها"، فلولاهم "لما صدر هذا الكتاب"، تذكر قائمة بمصادر معلوماتها، وكأنها تنشر تحقيقاً أو ريبورتاجاً، صحافياً مطولاً يلزم الصحافي، في نهايته، أن يذكر قائمة مصادره.

ولكن الرواية تتحدث كذلك عن الحفاوة التي أحاطها بها صديق والدها وعائلته والأقرباء والجيران. فتجد فرصة لتعريف القارئ الألماني بالعادات والتقاليد، والبساطة والتلقائية التي يتمتع بها أهالي تلك القرى والعشائر الإيزيدية. وكذلك عن تنظيمهم الديني أكثر من السياسي، وتشرح ضعف "الأمل عند الناس البسطاء" لأن الأحزاب التي يجب أن تمثلهم لا تملك "لوبي. لوبي كبيراً وقوياً" يستطيع التأثير في الرأي المحلي والعالمي، ممررة بذلك كثيراً من آرائها السياسية والحقوقية في ميادين عدة.

شاهدة على الركام

المتابع لأعمال رونيا عثمان السابقة يجد أن هذه الرواية تشكل استمراراً لما تكتبه الكاتبة الألمانية، من أصول كردية إيزيدية، منذ عام 2015 حتى الآن. سبق لها أن كتبت عن المذابح والجرائم في حق أبناء جلدتها في مجموعتها الشعرية الأولى "جرائم" (دار هانزر 2021) وقبلها من خلال روايتها الأولى "أصياف" (هانزر 2020).

في روايتها الأولى "أصياف" كتبت رونيا عثمان ما يشبه سيرة شخصية، ليس لها ولعائلة والدها فحسب، بل سيرة لأسلافها كذلك. بطلة الرواية اسمها ليلى، وهي فتاة في الثانوية العامة لأم ألمانية ووالد كردي إيزيدي، كانت تقضي عطلتها الصيفية في قرية أجدادها في شمال سوريا. تعود في كل صيف لتشم روائح المكان وتمتلئ به، لدرجة أنها تعرف أسراره، بل إنها تعرف "أين يخبئ الأهالي حقائبهم كلما اضطروا إلى الفرار". ولكن بعد الأحداث في سوريا، منذ عام 2011، صارت ليلى تقضي وقتها في ميونيخ على الإنترنت، لتشاهد صوراً من "حلب وقد دمرها الأسد" وتتابع أنباء هجوم "داعش" على القرى الإيزيدية وقتل الناس ودفنهم في مقابر جماعية، وبيع النساء في الأسواق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي مجموعتها الشعرية "الجرائم"، التي اعتبرها النقاد استمراراً "شعرياً مكثفاً" لروايتها الأولى "أصياف"، تناولت رونيا، التي نالت جائزة الجمهور في مسابقة إنغبورج باخمان (2019)، الجرائم التي تطاول الإنسانية جميعها "عندما تعاني جماعة صغيرة قضت حياتها في العزلة والاختباء والفرار"، على رغم أنها جماعة "لا حدود عندها للآمال والحزن والرغبات"، من خلال قصائد وجودية ترغب في مستقبل أفضل للإنسانية "ضد الحاضر البائس القاسي والعنيف".

رونيا عثمان ولدت في ميونيخ عام 1993، وتعيش حالياً في لايبزيغ، تبقى في حنين إلى مسقط رأس والدها الكردي الإيزيدي، وكأنها هي التي اقتلعت من ذلك المكان وهجرت قبل أن تولد. لذلك تعاني، في هذه المجموعة الشعرية، من حنين ثقيل إلى الوطن، لدرجة أنها تعرف تفاصيل المكان بمجرد "أن تغمض عينيها"، لأنها وجدت لتكون "شاهدة على الركام".

استغرقت الكاتبة، التي نالت جوائز عن مقالاتها الصحافية كذلك، ست سنوات من الوقت لكتابة روايتها الثانية "أربعة وسبعون"، التي قطعت لأجل ذلك، ولجمع مادتها، آلاف الكيلومترات بين ألمانيا وتركيا والعراق وسوريا، وزارت عشرات الأماكن وقابلت كثيراً من النساء والأطفال والرجال. في هذه الرواية تصف رونيا عثمان نفسها عندما تصف إحدى نساء المخيم "أكتب: كنت في ريف ما، في ذلك الريف كان هناك مخيم، في ذلك المخيم كانت توجد خيمة، في تلك الخيمة كانت هناك امرأة مسنة، في يد تلك المرأة المسنة كانت توجد حصاة". ترمي عين العالم بتلك الحصاة، لكي يلتفت إلى ما تسببه الوحشية ولو في أصغر مكان من العالم. وربما هذا بالضبط ما تريد أن تفعله رونيا عثمان من خلال هذه الرواية.