لوحة للفنان السعودي ماجد اليوسف (صفحة الفنان - فيسبوك)
لعل دعوة العالم اللغوي والأنثروبولوجي اللبناني أنيس فريحة (1902 ـ 1993) إلى تيسير اللغة العربية هي إحدى الدعوات الرائدة في هذا المضمار، وقد ترجمها في عدد من الكتب، وناقش فيها مشكلات التيسير، في ضوء المنهج الألسني التطبيقي، واقترح الحلول التي لم تُوضع موضع التطبيق، لاعتبارات كثيرة، يختلط فيها الديني بالسياسي. هذه الدعوة هي محور كتاب "دعوة إلى تيسير تعليمية اللغة العربية" للكاتبة الفلسطينية لورين أسعيد، الصادر عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر. وأسعيد باحثة وأستاذة تعليم ثانوي ومدرّبة معلّمين، مارست التعليم اثنين وثلاثين عاماً في المرحلة الثانوية، اختبرت خلالها تدنّي الكفاية التبلغية في اللغة العربية لدى المتعلّمين، ما حدا بها إلى وضع كتابها الذي يعزو أسباب التدنّي إلى "ثلاث مشكلات لغوية أساسية: مشكلة الازدواجية، مشكلة نظام الكتابة، ومشكلة اتّباع المنهج الفلسفي في تدريس القواعد النحوية والصرفية" (ص13).
تيسير العربية
الكتاب، في الأصل، دراسة أكاديمية كتبتها صاحبتها في قسم اللغة العربية، في جامعة حيفا. وتناولت فيها دعوة أنيس فريحة إلى تيسير العربية. وسوّغت اختيارها "لما تميّزت به من تجديد وحداثة، ولما اشتملت عليه من آراء ناقدة جريئة قياساً لآراء أصحاب المحاولات الأخرى في تلك الحقبة من الزمن" (ص21). وعلى رغم ذلك، قُوبلت الدعوة بالتجاهل لأسباب سياسية، واتُّهم صاحبها بمؤازرة الاستعمار ومناهضة القومية العربية. مع العلم أن المنهج الألسني الذي يعتمده في دعوته يتوخّى النظر إلى اللغة بموضوعية، بمعزل عن صلتها بالدين والسياسة. من هنا، تهدف أسعيد، في دراستها، إلى "تقصّي الأبعاد التنظيرية الألسنية التي وجهت فريحة في مقترحاته، وإلى بيان طرحه للفكر الألسني الحديث واستفادته منه لحل مشكلات العربية" (ص22). على أنها قبل أن تفعل تتلمّس مكامن الصعوبة في تدريس اللغة العربية، من جهة، وتتقصّى الدعوة إلى تيسير النحو العربي، من جهة ثانية.
منظورات ثلاثة
الدعوى بصعوبة اللغة العربية تتلمّسها الباحثة من منظورات ثلاثة: منظور ألسني، منظور الناطقين بها، ومنظور غير الناطقين بها. تكمن الصعوبة، من المنظور الأول، من حيث هي ظاهرة إنسانية تتمظهر في لغات ولهجات، ومن حيث هي لغة تُدرس كما هي. وتكمن، في المنظور الثاني، في "تعليمها وتعلّمها، أي أنها صعوبة تربوية لا علاقة لها باللغة وإن كانت اللغة هي موضوعها" (ص30). وإذ يرفض كثير من الباحثين العرب الدعوى القائلة بصعوبة اللغة العربية بحد ذاتها، ينحون باللائمة في هذه الدعوى على المستشرقين كالألماني فلهلم سبيتّا والفرنسي لويس ماسينون وغيرهما. وتكمن الصعوبة، في المنظور الثالث، وفقاً لمنظمة الخدمات الأجنبية في الولايات المتحدة، في الزمن الطويل الذي يستغرقه تعليمها للناطقين بالإنجليزية مقارنةً باللغات الأخرى. لذلك، تجعلها في رأس قائمة اللغات الأصعب في العالم، ويليها في الصعوبة الصينية واليابانية والكورية. غير أن المستشرق باول ستيفنس يفنّد هذا التصنيف مستنداً إلى المعجم والإعراب والتصريف، ويعزو الصعوبة إلى عوامل تعليمية أكثر مما يعزوها إلى البنية اللغوية العربية. وفي مقابل تلمّسها مكامن الدعوى بالصعوبة، من المنظورات الثلاثة، تستعرض الباحثة محاولات تيسير النحو العربي، بدءاً من كتب النحو القديمة ومناهج النحاة القدماء في دراسة النحو ووضع أحكامه والمبادئ التي اعتمدوا عليها في وضعها، وانتهاءً بما له علاقة بالنحو التقليدي من إعراب ومصطلحات وتدريس.
في دراستها، تتناول أسعيد، على مدى ثلاثة فصول، معالجة فريحة لثلاث مشكلات تمخّضت عنها الصعوبة، من المنظورات الثلاثة، هي: مشكلة الازدوجية، مشكلة تدريس النحو، ومشكلة الخط العربي، من منظور الألسنية الاجتماعية التطبيقية التي اعتمدها في معالجته. على أنها، قبل أن تفعل، تُفرد الفصل الثاني من كتابها للتعريف بالمعالِج، فتتناول سيرته العلمية والعملية؛ وفيها: ولادته في رأس المتن لأسرة فقيرة، تنقّله بين عدد من المدارس التبشيرية، دراسته في جامعة بيروت الأميركية وجامعة شيكاغو الأميركية وجامعة تبنغن الألمانية، تدريسه في ثانوية في النجف الأشرف وفي كلية البنات الأميركية والجامعة الأميركية في بيروت. وقد تمخّضت هذه السيرة العلمية/ العملية عن مجموعة مؤلّفات في الاتجاه الألسني، وأخرى في الاتجاه الأنثروبولوجي، وشكّل بعضها المادة الأولية لإعداد هذه الدراسة. فكيف عالج فريحة المشكلات اللغوية الثلاث، الازدواجية والنحو والخط، في مؤلفاته المختلفة، من وجهة نظر الباحثة؟
الازدواجية اللغوية
في معالجة المشكلة الأولى المتعلّقة بالازدواجية اللغوية، ترى أسعيد أن فريحة أدرك خطورة المشكلة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمعات، على المستويات التربوية والشخصية والأخلاقية والفنية، ويقترح حلّها، من وجهة نظر ألسنية اجتماعية تطبيقية، بتبنّي مستوى لغوي ثالث، يسمّيه بـ"عامّية المثقفين المشتركة"، و"هي العربية المحكية التي نسمعها في أرض الجامعات العربية في مصر ودمشق وبغداد وبيروت، وهي لغة النادي والصالون، وهي لغة المجتمع العربي الراقي التي خلقتها المدرسة والصحافة والإذاعة والسياحة والتجارة والتقارب السياسي والتعاون الاجتماعي"، على حدّ تعريفه. غير أنه يدرك أنّ دون اعتماد هذا الحل اعتبارات اجتماعية وسياسية واقتصادية يصعب توافرها، ما يبقي مقترحه حبراً على ورق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في معالجة المشكلة الثانية المتعلقة بتدريس القواعد النحوية، يميّز فريحة، على حدّ استنتاج الدارسة، بين مصطلحي التيسير والتبسيط، من حيث إن الأول يمسّ بجوهر التركيب والإعراب، وبالعلاقة بين اللغة والدين، وبالعلاقة بين اللغة والقومية، ما يجعله موضع رفض الناس، ومن حيث إن الثاني لا يمس بجوهر اللغة وأحكامها، وييسّر تعليمها، ما يجعله يتبنّاه، ويقترح مبادئ لتبسيط القواعد النحوية تراعي مقتضيات التوصيف والتدرّج والشمول ووحدة الموضوع والتبسيط والاقتصاد وسواها من المقتضيات التربوية. ويضرب أمثلة تطبيقية على دعوته بالتصغير والممنوع من الصرف.
الخط العربي
في مواجهة المشكلة الثالثة المتعلقة بالخط العربي، يشخّص فريحة المشكلة بـ"خلوّ الخط العربي من "الأحرف المصوّتة" في درج الكتابة، الأمر الذي يتطلّب من القارئ أن يفهم ليقرأ قراءة صحيحة، وهو عكس ما نتوخّاه من عملية القراءة" (ص269). وهو لا يقدّم مقترحاً معيّناً لحل المشكلة، بل يكتفي باستعراض بعض الحلول التي قدّمت إلى مجمع اللغة العربية في القاهرة بين الأعوام 1938 و1945 والتعليق عليها، لكن من يدقّق في تعليقاته، "يخلص إلى أنه مقتنع تمام الاقتناع باستبدال الحرف اللاتيني بالحرف العربي كأفضل حل لمشكلة الخط"، على حد استخلاص الدراسة. وهو ما لا يتورّع عن المجاهرة به بالقول: "وإذا خُيّرتُ، أو إذا وُضِع الأمر للتصويت، فأنا مع الحرف اللاتيني، لأنني لا أرى حلاً للمشكلة ما لم تُحرّك الكلمة، وما لم يُضبَط لفظها وشكلها والحرف اللاتيني يستطيع هذا" (ص271). وهو يصدّر في خياره عن اعتبارات ألسنية وتربوية وتقنيةـ اقتصادية. لكنه لم يقل لنا كيف تُعالَج القطيعة التي ستنجم حتماً عن مثل هذا الخيار بين الأجيال المقبلة وتراثها الضارب في العراقة والقِدَم المكتوب بالخط العربي؟ وماذا عن الأحرف العربية التي لا نقع لها على مقابل في الحرف اللاتيني؟ على أنّ تطبيق مثل هذا الخيار دونه خرط القتاد لِمَسّه بالهوية والدين والحضارة وسواها من المقدّسات.
خلاصات كثيرة تستخلصها أسعيد، بنتيجة الدراسة، منها ما يتعلّق بالمشكلات المعالَجة، ومنها ما يتعلّق بالمعالِج، غير أن أهمّها تبرئة أنيس فريحة من تهمة العداء للغة العربية والولاء للاستعمار في دعوته الجريئة لتبسيط اللغة وتيسر تعليمها وجعلها تواكب العصر، فهو يصدّر فيها عن منهج علمي وحرص على التطوير، على حدّ استخلاصها. وهي بذلك ترفع ظلماً لحق به ولو بعد حين، من خلال بحثها الرصين، من جهة، وتُسدي خدمة جلّى للعربية والمتكلّمين بها، من جهة ثانية.