تواصل إسرائيل وجودها في قطاع غزة (أ ف ب)
منذ 10 أيام تقريباً وقبل طلوع الشمس، يخرج سامر زعارير (30 سنة)، مع كل ما يحمله من مر الفقر والاحتياج، ليحجز دوراً في طابور المخبز الوحيد المتبقي في مدينة غزة، عله يحصل بعد عذاب الانتظار على أرغفة الخبز الحاف، ليسد بها رمق أطفاله الذين أجبرهم الجوع اقتيات بضعاً من أوراق الشجر والحشائش، وفتات طعام معجون بالرمال.
وأدى تقليص الجانب الإسرائيلي دخول المواد الأساسية مثل الطحين والسكر والخميرة منذ نحو شهر إلى شمال القطاع، إلى توقف خمسة مخابز من أصل ستة، مما يهدد بعودة شبح المجاعة، خصوصاً وأن المخبز الوحيد بات يواجه بين ليلة وضحاها خطر الإغلاق، بسبب وقف إمداد شمال القطاع بالوقود اللازم منذ مطلع سبتمبر (أيلول) الجاري.
وفي ضوء استمرار تعثر مفاوضات صفقة الأسرى بين "حماس" وتل أبيب، جراء إصرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على مواصلة الحرب، وتمسكه بالسيطرة على محوري "فيلادلفي" و"نتساريم" جنوب ووسط القطاع، ومطالب "حماس" بانسحاب إسرائيلي كامل من غزة وعودة النازحين من دون قيد أو شرط، ثمة قادة في الجيش يدرسون جدياً فكرة تبني خطة دراماتيكية قدمها مجموعة من الضباط الإسرائيليين من "منتدى الضباط والمقاتلين في الاحتياط" مطلع سبتمبر الجاري، تهدف إلى تعديل مسار العمليات العسكرية الحالية شمال القطاع بما يضمن تحقيق الانتصار على "حماس".
وعلى رغم أن خبراء ومحللين عسكريين وكذلك الجيش الإسرائيلي يعترفون بعدم وجود إمكان للقضاء على "حماس"، طرحت الخطة الاستراتيجية الجديدة، التي حبكها وأشرف عليها رئيس شعبة العمليات في الجيش سابقاً غيورا آيلاند، التركيز في مرحلتها الأولى على إجبار السكان المتبقين في شمال قطاع غزة الذين يقدر عددهم بنحو 300 ألف فلسطيني النزوح خلال فترة زمنية قصيرة، وتحويل المنطقة في شمال "نتساريم" بالكامل إلى "عسكرية مغلقة"، في حين تطرح المرحلة الثانية من خطة آيلاند، فرض حصار عسكري كامل وشامل على شمال القطاع، مما قد يدفع عناصر "حماس" إلى الاختيار بين الاستسلام أو الموت جوعاً، وسيقضي على قدرتها على تجنيد مقاتلين جدد.
ويقدر الجيش الإسرائيلي، بأن نحو 5 آلاف مقاتل من "حماس" لا يزالون موجودين في المنطقة الشمالية.
تهجير السكان
آيلاند الذي يعد من أبرز مؤيدي استخدام التجويع كسلاح في الحرب على غزة، أشار في حديثه مع قناة "12" الإسرائيلية إلى أن الاستراتيجية العسكرية الحالية للحكومة الإسرائيلية التي تركز فقط على الضغط العسكري لم ولن تنجح في إعادة الأسرى أو إنهاء الصراع، بل أدت بحسب تعبيره إلى "فتح جبهات جديدة تشكل تهديدات إضافية"، منوهاً بأنه كان على إسرائيل تطبيق هذه الخطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، قائلاً إن الوقت الآن لتنفيذ الخطة "ليس متأخراً كثيراً".
وأكد أن الخطة تشمل رفح وأماكن أخرى في قطاع غزة، وليس في الشمال فقط"، مدعياً أن "خيار التجويع هو الخيار الأخير الذي قد يكون فعالاً بشكل فوري"، ووفقاً للخطة فإن أي فلسطيني يقرر البقاء في شمال قطاع غزة بعد انتهاء الأسبوع سيعد "عدواً لإسرائيل".
بعد أيام من السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كتب آيلاند مقالة خلص فيها إلى أن "أية نتيجة من دون القضاء على ’حماس‘ ستكون فشلاً إسرائيلياً"، ووضع برنامجاً مفصلاً للوصول إلى هذه النتيجة، على رأسها نقل سكان غزة بالكامل إلى مصر أو إلى الخليج، واعتبار كل مركبة في غزة مركبة عسكرية لنقل المقاتلين، واشتراط المساعدات بزيارة الصليب الأحمر للرهائن الإسرائيليين وبخاصة المدنيين منهم، ووضع الأميركيين في صورة تفسيرات واضحة ومفصلة من المسؤولين الإسرائيليين، بأن ليس لديهم خيارات أخرى.
وختم آيلاند مقالته بالقول "نتيجة لذلك ستصبح غزة مكاناً لا يمكن أن يوجد فيه أي إنسان، ولا يوجد خيار آخر لضمان أمن دولة إسرائيل، نحن نخوض حرباً وجودية".
ووفق ملخص دبلوماسي سري، مسرب عبر موقع "ويكيليكس"، فإن آيلاند وضع الخطوط العريضة لمشروع تهجير أهالي قطاع غزة وعرضه على الولايات المتحدة، عندما كان يمتلك منصباً رسمياً كرئيس لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي في 2010، واقترح آنذاك أن يتم إقناع مصر بالمساهمة بقطعة أرض مساحتها 600 كيلومتر مربع، ستضم إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية كتعويض عن 11 في المئة من الضفة الغربية التي تسعى إسرائيل إلى ضمها في التسوية النهائية، وهذه المنطقة الواقعة في سيناء، التي يبلغ طولها 20 كيلومتراً على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط، ستكون متاخمة لقطاع غزة، وسينشأ ممر بري يربطها بمصر والأردن.
قطع الإمدادات
هذه الخطة المثيرة للجدل، التي حظيت بدعم عدد كبير من الضباط الإسرائيليين، الذين يؤمنون بأن حركة "حماس" لا يمكن هزيمتها طالما أنها تتحكم في المساعدات الإنسانية، دفعت نتنياهو للإيعاز الأسبوع الماضي للجيش الإسرائيلي بأن يستعد للسيطرة على المساعدات الإنسانية بدلاً من المنظمات الدولية لفترة محددة، بادعاء أن ذلك سيمنع إعادة تنظيم قوات كتائب القسام في هذه المنطقة.
وبحسب ما ذكرته صحيفة "ماكور ريشون" اليمينية فإن "حماس" وعلى رغم الاجتياح البري الإسرائيلي الواسع لشمال القطاع وتدمير أجزاء واسعة فيه "تمكنت من ترميم قدراتها في هذه المنطقة وإعادة تنظيم كتائبها المقاتلة"، وأن سيطرتها على توزيع المساعدات الإنسانية على شمال القطاع جعل مئات الآلاف من السكان تحت حكمها.
وأضافت الصحيفة أن نتنياهو بخطته هذه لا "يتبنى" وحسب توجه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتيرتش ووزيرة الاستيطان أوريت ستروك، اللذان يرفضان وقف الحرب على غزة ويطالبان، مع وزراء آخرين، بتوسيعها والاستيطان في القطاع، بل يتناقض مع موقف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هرتسي هليفي ووزير الدفاع يوآف غالانت، إذ طالب الأخير بأن يعلن نتنياهو ألا تسيطر إسرائيل مدنياً في غزة، ودفع خطة تقضي بأن تحكم قطاع غزة جهة غير "حماس".
وطالبت ستروك خلال اجتماع الحكومة أخيراً بأن "تأخذ" إسرائيل إليها منطقة في شمال القطاع، كرد على مقتل ستة رهائن مطلع سبتمبر الجاري، وأيداها في ذلك وزير شؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية عميحاي شيكيل ووزيرة حماية البيئة عيديت سيلمان.
إطاحة السلطة
بدورها حذرت وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية من أخطار إقدام الجيش الإسرائيلي على إخلاء شمال غزة من المواطنين، معتبرة ذلك مقدمة للاستيطان في أجزاء من القطاع، وفي بيان تعليقاً على خطة آيلاند لتهجير بقية سكان شمال غزة، اعتبرت الخارجية الخطوة "مقدمة للبدء بضم القطاع وأجزاء أساسية منه تمهيداً للاستيطان فيه، مما يهدد بشكل جدي بتهجير المواطنين بعد حشرهم في منطقة ضيقة".
وترى الخارجية أن "الفشل الدولي في وقف الحرب يوفر لإسرائيل الوقت اللازم لتنفيذ مخططاتها في الضفة وغزة، ويشجعها على التمادي في ضرب مرتكزات الدولة الفلسطينية، وتصفيتها بهدف تسهيل ضمها والإطاحة بالسلطة الوطنية الفلسطينية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشددت الوزارة الفلسطينية على ضرورة "فرض عقوبات دولية رادعة على إسرائيل، كمدخل لإجبارها على وقف الحرب واحترام قرارات الشرعية الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية".
ووفقاً لتحليل رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" ألوف بن قبل أيام فإن بدء رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تنفيذ المرحلة الثانية من الحرب على غزة وتجاهل الأسرى الإسرائيليين يهدف إلى استكمال السيطرة على شمال قطاع غزة، من الحدود السابقة حتى محور "نتساريم"، مما قد يؤهل تدريجاً للاستيطان وضمها لإسرائيل"، وذلك وفقاً لحجم المعارضة الدولية التي ستكون في أعقاب خطوات كهذه، ويرى بن أن تنفيذ هذه الخطة "سيحقق حلم نتنياهو بتوسيع مساحة إسرائيل، الذي سيعتبره الانتصار المطلق والرد الصهيوني على أحداث السابع من أكتوبر."
إشكالات عديدة
الخبير العسكري والاستراتيجي واصف عريقات يرى أن خطة آيلاند المعروفة بخطة "الجنرالات" تواجه عدداً من الإشكالات والعراقيل التي تحول دون تحقيقها، وإلى جانب أن إسرائيل تواجه تحديات متعددة الجبهات في القطاع والجبهة الشمالية ومن الضفة الغربية، وتتأهب لرد إيراني متوقع يتزامن مع هجمات الحوثيين.
ويعتقد عريقات أن "الجيش الإسرائيلي وعلى رغم عملياته المستمرة لا يسيطر في شكل فعلي على شمال قطاع غزة"، وأن الوحدات القتالية الموجودة هناك "لا يمكن لها أن تنفذ هذه الخطة من دون تعزيزها بوحدات جديدة".
وفي يوليو (تموز) الماضي، كشف وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت عن حاجة الجيش إلى 10 آلاف جندي إضافي فوراً، وسط تقارير عن "زيادة كبيرة" في عدد الضابط الذي يطلبون التقاعد من الخدمة العسكرية.
وبسبب نقص القوات، صادقت الحكومة الإسرائيلية في يونيو (حزيران) الماضي على قانون تمديد خدمة الاحتياط لرفع سن الإعفاء من خدمة الاحتياط لمدة ثلاثة أشهر، ووفقاً للاقتراح سيخدم جنود الاحتياط غير الضباط حتى سن 41 سنة بدلاً من 40، والضباط سيخدمون حتى سن 46 سنة بدلاً من 45.
وبحسب ما ذكرت هيئة البث العام الإسرائيلية "كان 11" دفع النقص الحاد في القوات المقاتلة بالجيش الإسرائيلي، قيادة فرقة المشاة الاحتياطية (الفرقة 96) إلى إنشاء كتيبة جديدة تضم مقاتلين من سلاح البحرية لإعدادهم للمشاركة في العمليات العسكرية البرية، إذ تتضمن المبادرة إخضاع مقاتلي سلاح البحرية الذين تم إعفاؤهم سابقاً من خدمة الاحتياط، لتدريب مكثف في سلاح المشاة بهدف الوصول إلى مستوى يؤهلهم للمشاركة في العمليات البرية، مع استمرار الحرب على غزة، يشمل القتال في المناطق الحضرية واستخدام الأسلحة المخصصة لسلاح المشاة.
وأفادت الهيئة بأن الجيش يشرع في الأيام الأخيرة بـ"تجميع قائمة المقاتلين الذين سينضمون إلى الكتيبة الجديدة، ومن المقرر أن يبدأ تدريبهم بعد نحو شهرين".
في المقابل وجه جنود من وحدة المظليين في الجيش الإسرائيلي رسالة تحذيرية لقادتهم، عبروا فيها عن استيائهم من طول فترة الحرب، محذرين من "الاستنزاف الشديد" الذي يتعرضون له، وكتب الجنود في الرسالة الموجهة لرئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي "ستأتي اللحظة التي يصبح فيها الوضع غير محتمل، ولن يتمكن الجنود من مواصلة العمليات البرية".
دوامة أمنية
من جهته اعتبر الرئيس السابق لشعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي يسرائيل زيف في مقالة نشرها على موقع القناة "12" الإسرائيلية أن "استمرار القتال من دون استبدال نظام حكم ’حماس‘ لا يؤدي إلى أية نتائج حقيقية ويكلف الجنود حياتهم".
ويرى زيف، الذي كان قائداً سابقاً لفرقة غزة بالجيش الإسرائيلي، أن إسرائيل في الشهر الـ12 من أطول حرب وأكثرها إنهاكاً "تجد نفسها عالقة في دوامة أمنية، إذ تتوالى الأحداث وتتبعها ردود الفعل بلا نهاية في جميع الساحات المحيطة بها"، مؤكداً أنه من الناحية الأمنية "وضع إسرائيل لا يتحسن، بل يزداد تعقيداً، من دون وجود أفق يشير إلى نهاية الحرب أو حتى اتجاه لحل الوضع"، مضيفاً "الجهد الرئيس الذي يبذله الجيش اليوم هو كبح انتعاش ’حماس‘ التي تواصل السيطرة على القطاع".
وكان مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أعلن في مارس (آذار) الماضي أن المرحلة الأولى من القتال والقضاء على "حماس"، قد تستغرق سنة أو سنتين حتى تنتهي وثماني سنوات أخرى حتى تشكل حكومة بديلة هناك، "هذا إن شكلت على الإطلاق".
وأكد المكتب، أن طوال هذه الفترة، ستواصل إسرائيل وجودها في غزة وأن "حماس" لن تحكم هناك بعد الآن، مشيراً إلى أن غزة ستبدو بعد خمس أو 10 سنوات، تماماً كما تبدو الضفة الغربية اليوم "قطاعاً منزوعاً من الأسلحة الثقيلة، تحت سيطرة فلسطينية شبه معادية على غرار السلطة الفلسطينية، مع هجمات لا نهاية لها من إسرائيل على "مراكز إرهابية" في عمق القطاع ومداهمات مثل نابلس وجنين، وهدم منازل واعتقالات ليلية، موضحاً أن كل شيء آخر سيستمر أيضاً في خان يونس والشجاعية.
ويرى مراقبون أن خطة آيلاند ونتنياهو وسموتريتش لاستمرار الحرب سترغم مليون فلسطيني يزدحمون في رفح وخان يونس والمواصي للاقتناع أنهم لن يتمكنوا أبداً من العودة لبيوتهم المدمرة، ويفترض أن يحرضهم اليأس ضد حكم "حماس"، ويشجع كثيرين منهم على الهجرة إلى خارج القطاع.