المشاهد كانت مرعبة في المستشفيات وشبّهت بتلك التي في أفلام الخيال والرعب (رويترز)
في حصيلة شبه نهائية، سقط 37 قتيلاً و2931 مصاباً، في التفجيرات التي طالت أجهزة "البيجر" واللاسلكي، يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، على الأراضي اللبنانية وخصوصاً في ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع والجنوب. وتوزع المصابون على 100 مستشفى في مختلف الأراضي اللبنانية، وكانت كلها في وضع تأهب لاستقبال المصابين بناء على تعليمات عاجلة صادرة عن وزارة الصحة خلال اللحظات الأولى من حصول التفجيرات. وعلى رغم الجاهزية التامة للقطاع الطبي نظراً للاستعدادات المستمرة من أسابيع عدة لأي حالة طارئة في ظل ظروف الحرب التي تمرّ بها البلاد، لم يكن هذا الأمر في الحسبان، وكان من الطبيعي أن يتسبب بحالة من الارتباك، والسبب ليس في كون الحالات حرجة في نسبة كبيرة منها، وإن كانت كذلك، ولا في كون آلاف المصابين قد تدفقوا إلى المستشفيات دفعة واحدة، بل في طبيعة الإصابات وتشابكها.
وقد تركزت الإصابات على العينين واليدين بشكل أساسي وأجريت أكثر من 460 عملية في العينين في اليوم الأول في مختلف المستشفيات ما شكّل تحدياً كبيراً للقطاع الصحي. ومثل هذه التحديات تضع القطاع أمام امتحان صعب وتطرح تساؤلات حول مدى جاهزيته في حال توسع رقعة الحرب واندلاع حرب شاملة؟
أثبت القطاع الصحي على جاهزية تامة لكن كان من الممكن معالجة الثغرات في خطة الكوارث الصحية (أ ف ب)
ضربة مفاجئة وتحرك سريع
وتوزع المصابون على 100 مستشفى موزعة في مختلف الأراضي اللبنانية. وبحسب أرقام وزارة الصحة العامة، هناك 1850 مصاباً في بيروت والضاحية الجنوبية، ونحو 750 مصاباً في جنوب لبنان، ونحو 150 مصاباً في البقاع الشمالي. وخلال ما لا يزيد على نصف ساعة من الوقت توافد آلاف المصابين إلى المستشفيات التي كانت قد تبلّغت من وزارة الصحة بالحدث الطارئ، ودعيت إلى الاستجابة السريعة لهذه الحالات الطارئة. ونقلت 1184 سيارة إسعاف المصابين ووضعت بنوك الدم كافة في خدمتهم، وأمّن الصليب الأحمر نحو 200 وحدة دم لهم.
وشبّه المشهد الدموي هذا بأفلام الخيال والرعب، وقد أعاد إلى أذهان اللبنانيين الحرب اللبنانية ولحظات انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) 2020 لهول ما حصل. فكانوا في حالة صدمة في اليوم الأول قبل أن تعاود التفجيرات في اليوم الثاني لتسجل فيه المزيد من الإصابات.
وعلى رغم الاستعدادات وخطة الكوارث الصحية التي تخللتها تدريبات للمستشفيات الخاصة والعامة وللطواقم الطبية والتمريضية والمسعفين، أُربك القطاع الصحي إذ إن التوقعات كانت تتجه نحو توسع رقعة الحرب أو حرب شاملة، لا نحو ضربة مفاجئة تؤدي إلى آلاف الإصابات المتشابهة في مناطق مختلفة في لبنان في الوقت نفسه. وما حصل يدعو إلى إعادة النظر في خطة الكوارث الصحية والبحث في ثغرات معينة فيها، وقد تكون هناك حاجة إلى التعديل تحسباً لأي طارئ قد يحصل أو لاندلاع حرب شاملة.
في السياق، أشاد مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة جوزيف الحلو بالجدارة التي أظهرها القطاع الصحي في لبنان في اليومين الماضيين بكل ما فيه من طواقم طبية وتمريضية ومسعفين وعاملين، تماماً كما أثبت على جاهزية تامة في جائحة كورونا وفي انفجار مرفأ بيروت "إذ أثبت أنه في جاهزية تامة وأنه قادر على مواجهة أي تحديات وصعاب، وإن كانت تحمل مفاجآت غير متوقعة. كان هناك تنسيق تام عالي المستوى بين غرفة الطوارئ في الوزارة والمستشفيات العامة والخاصة والمسعفين على مختلف الأراضي اللبنانية لتوزيع الحالات بشكل متوازٍ حتى لا يتعرّض أي مصاب لخطر المضاعفات بسبب التأخير والانتظار. توزع المصابون على 100 مستشفى للسيطرة على الوضع، واستمر الأطباء بإجراء العمليات في العيون والرأس واليدين من دون كلل حتى أنجزت كلها بنجاح".
في الإصابات المتشابهة التحدي الأصعب
مما لا شك فيه أن تركز الإصابات على اليدين والعينين بشكل أساسي، والحاجة إلى إجراء عمليات جراحية مستعجلة لمئات المصابين دفعة واحدة شكل التحدي الأكبر للقطاع الصحي. ويشهد الأطباء على أن مثل هذا التحدي يسبب إرباكاً في أي نظام صحي بما أن عدد الجراحين، وخصوصاً جراحي العيون محدود، وكان المطلوب إنقاذ العدد الأكبر من الأرواح وأيضاً من الأعضاء التي تضررت بشكل كبير. ما أكده حلو أن الأولوية تبقى دوماً في إنقاذ العدد الأكبر من الجرحى، مشيراً إلى تفاني الجراحين عامة وجراحي العيون بخاصة في إجراء العمليات. وعلى رغم توزيع المصابين على مختلف المستشفيات، كان هناك تركيز على المستشفيات التي لها مراكز خاصة للعيون لاعتبارها تملك المزيد من التجهيزات والأطباء المتخصصين. لكن في كل الحالات، مهما كان مركز العيون مجهزاً، لا يمكن أن يستقبل أكثر من أربعة مرضى في آن واحد في غرفة العمليات لعدم توافر التجهيزات لعدد أكبر. وهذا كان من التحديات الأساسية التي واجهها القطاع الطبي والاستشفائي. وينطبق ذلك على الجراحات التي أجريت لليدين، فكان عدد الجراحين محدوداً لمثل هذه العمليات في المستشفيات.
ومهما كانت الاستعدادات والتدابير متخذة، ثمة أمور يمكن أن تحصل لا تكون ضمن الحسابات "وكانت وزارة الصحة قد حرصت منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على التحضر لأي طارئ عبر تدريب المستشفيات بدءاً من مستشفيات الجنوب أولاً، ثم انضمت 118 مستشفى مع الطواقم الطبية والتمريضية وأظهرت كلها جاهزية تامة، كما ثبت في اليومين الماضيين. لكن ما لم يكن متوقعاً، أن تأتي ضربة واحدة لتسبّب آلاف الإصابات في لحظة واحدة في مناطق عدة في لبنان".
وأشار حلو إلى أنه حتى، مستقبلاً، يصعب توقع ما قد يحصل في الحرب "على رغم أنها كانت ضربة مفاجئة، استطعنا السيطرة على الوضع، وحالياً عدنا ووزعنا المستلزمات الطبية على المستشفيات، كانت قد وصلتنا من الأردن والعراق، ونحن على أتم الاستعداد من هذه الناحية مع مخزون من المستلزمات يكفي لمدة أربعة أشهر. لكن في ما عدا ذلك، لا يمكن لأحد أن يتوقع ما قد يطرأ من مفاجآت، وما قد يحصل في حال اندلاع حرب شاملة. ومن المشكلات التي يمكن مواجهتها عندها انقطاع المازوت والكهرباء في مرحلة ما، وإن كنا في جاهزية تامة كأطقم طبية وقطاع صحي".
لا بكاء ولا أنين
اللحظات الأولى للتفجيرات كانت مرعبة وصادمة للشعب اللبناني عامة وللقطاع الصحي بشكل خاص "وعلى رغم ذلك تمّ التحرك سريعاً، وبلّغت وزارة الصحة المستشفيات كافة بضرورة الاستعداد لاستقبال المصابين عبر المجموعات التي تجمع الوزارة بمندوبين من كل من المستشفيات. وبالفعل خلال النصف ساعة الأولى، وقبل وصول المصابين، كانت الأطقم الطبية في المستشفيات في استعداد تام لاستقبال المصابين".
مستشفى "جبل لبنان" كان من المستشفيات التي استقبلت عدداً كبيراً من المصابين، فوصله 150 مصاباً نظراً لموقعه في منطقة قريبة من الضاحية الجنوبية حيث حصلت النسبة الكبرى من الإصابات والتفجيرات. ووصف المدير الطبي في المستشفى نزيه غاريوس المشاهد الدموية الأولى لوصول المصابين بالمرعبة والصادمة فعلاً، لكن ما لفت نظره بشكل خاص وصول عشرات المصابين الذي فقدوا أعينهم وأصابعهم ولم يسمع لهم أي صراخ او أنين من الوجع، فكان مشهداً لافتاً.
كما لفت نظره أحد الجرحى الذي طلب من الطبيب أن يرد له أصابعه فقط حتى يتمكن من حمل السلاح مجدداً "هي مناظر لا سابقة لها في التاريخ، والأصعب أنها كانت كلها متشابهة، فتصعب رؤية عشرات الإصابات لأشخاص فقدوا أعينهم وأصابعهم. وبالنسبة لنا، كان في ذلك التحدي الأكبر. على رغم ذلك، كنا على أتم استعداد، خصوصاً أننا كنا قد اكتسبنا خبرة من انفجار المرفأ مع وصول 400 مريض إلى المستشفى آنذاك. كما كنا قد أجرينا تدريبات من شهرين استعداداً لأي حالة طارئة بالتعاون مع وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية، وكنا حاضرين لهذه الحالة الطارئة والمفاجئة، حتى أننا كنا قد حضّرنا المستلزمات الطبية للعمليات في علب جاهزة لاستخدامها بشكل سريع ومباشر من قبل الممرضين والأطباء من دون تأخير. وكان الاندفاع لافتاً من قبل الأطباء والممرضين والجميع كانوا في الصفوف الأمامية لتقديم المساعدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار غاريوس إلى أن المستشفى والعاملين فيه أثبتوا جدارة تامة في هذه التجربة، لكن مما لا شك فيه أنه يمكن التعلم من كل تجربة وإدخال التحسينات اللازمة للتحرك بمزيد من الفاعلية في أي تجربة طارئة أخرى.
من جهته، أشار مدير قسم الطوارئ في مستشفى "أوتيل ديو دو فرانس" أنطوان الزغبي إلى أنه بعد استقبال 80 مصاباً، اضطر المستشفى إلى تحويل مصابين إلى مستشفيات أخرى بسبب ارتفاع عدد المصابين بالحالة ذاتها، فيما أجّلت عمليات طارئة "ولم تسجل أي حالة وفاة بل كان من الممكن إنقاذ جميع المصابين. أما إصابات اليدين، فعلى رغم المساعي لإنقاذ المصابين وتجنب البتر، فكانت هناك حالات كثيرة انفجر فيها البايجر في اليد وبُترت الأصابع، ولم يكن من الممكن إنقاذها، كما قد يحصل في الحالات العادية عندما يحصل بتر للأصابع ومن الممكن عندها إعادة زرعها".
وعلى رغم الاستعدادات والتدريبات للمستشفى، وعلى رغم خطة الكوارث التي وضعتها وزارة الصحة، أكد الزغبي أن التحدي كان كبيراً "فكانت تجربة مختلفة، ولم يكن أحد يتوقع عملاً مماثلاً وإن كانت قد سبقته تجربة انفجار المرفأ. فالصعوبة الكبرى في أن الإصابات كانت في الرأس والعينين. لكن، كان من الممكن التعامل مع الوضع على أساس عملية الفرز الطبي بحسب معدلات خطورة كل من الحالات، ليتم التعامل مع كل منها على هذا الأساس".
التنسيق كان أساسياً
في مستشفى "المقاصد"، كان الضغط بمعدل أقل على الطاقم الطبي إذ دخل 35 مصاباً فقط في الموجة الأولى، فيما كان المستشفى والطاقم فيها على جاهزية لاستقبال 100 مصاب خلال ست ساعات. فكان الوضع مقبولاً بالنسبة للاستعدادات وبعد ساعتين لم يكن هناك أي مصاب في الطوارئ بما أن المطلوب كان التصرف بسرعة. هذا، ولم تكن هناك حالات حرجة للغاية، وبذل جميع الأطباء والممرضين الجهود اللازمة بالتنسيق مع وزارة الصحة. وأكد المدير الطبي للمستشفى وائل جروش أن التنسيق كان في غاية الأهمية لأن الجميع كانوا على أتم استعداد قبل حضور أول المصابين، مشيراً إلى أن كل تجربة تعلّم القطاع الطبي الكثير ومن المؤكد أن ثمة ثغرات، وقد أجري اجتماع بعدها لخطة الكوارث لتعلم كيفية التصرف في أي حالة أخرى قد تطرأ.
وأجري التعامل مع الإصابات التي كان معظمها في اليدين والعيون، وأخرى في جدار البطن، ومنها في الورك الأيمن أو الأيسر. في اليدين، بُترت الأصابع المتضررة، وكانت كذلك في معظمها، كما نُقل خمسة مرضى إلى مركز العيون في مستشفى "الجامعة الأميركية" لأنه كان من الممكن ترميمها، وبعد التحقق من طبيعة المشكلات في البطن أجري التدخل اللازم، كما كانت هناك حالات نزف داخلي بسيط لم تستدعِ عملية معقدة. في اليوم التالي، أدخلت حالات طفيفة "في انفجار المرفأ، كانت إصابات صعبة لكن مختلفة. ما حصل هنا كان في غاية الصعوبة بسبب انخفاض عدد أطباء العيون بشكل عام. وكان من الصعب كفريق طبي التعامل مع الإصابات البالغة نفسها، خصوصاً أنه في مشكلات العينين تكون العملية دقيقة للغاية وثمة حاجة للحفاظ على النظر لأن أي تأخير يؤثر في النظر. إنما في الحالات المماثلة، لا يمكن التركيز على إنقاذ عضو بل على إنقاذ الأرواح"، ختم جروش.