قبل اكتشاف اللقاح انتشر الوباء بصورة واسعة مسبباً ارتفاعاً في حالات الشلل بين الأطفال في الولايات المتحدة (غيتي)
يعد شلل الأطفال من الأمراض التي استطاعت معظم دول العالم السيطرة عليه والقضاء عليه بصورة نهائية. ومن عام 2022 لم يعد الفيروس منتشراً إلا في باكستان وأفغانستان بفضل الجهود التي بذلت لتكثيف حملات التلقيح وتحصين المجتمعات بمستويات مرتفعة. حالياً، لا تسجل حالات منه إلا في بعض الدول التي تعاني نقصاً في اللقاحات بسبب الفقر والحروب والأزمات. فأخيراً، في ظل الحرب على غزة، أعلنت وزارة الصحة تسجيل أول حالة شلل أطفال نظراً إلى الظروف الصعبة المرافقة للحرب وانعدام الأمن الصحي وفقدان اللقاحات، وذلك بعد سنوات عديدة كانت فيها خالية من الفيروس، ويؤكد هذا الأمر على أهمية الدور الذي لعبه لقاح شلل الأطفال عبر التاريخ في القضاء على الفيروس، فوجوده قلب المقاييس وسمح بالسيطرة على المرض الذي كان قبل ظهوره، سبباً رئيساً للإعاقة بين الأطفال، حتى إنه لولا وجود اللقاح لاختلف المشهد تماماً في العالم عما هو عليه راهناً.
صنف لبنان بين الدول عالية الأخطار من قبل منظمة الصحة العالمية لجهة انتشار فيروس شلل الأطفال بسبب وجوده في الدول المجاورة (أ ف ب)
من وباء منتشر إلى بلاد خالية من الفيروس
وانتشرت حالات شلل الأطفال بنسب عالية قبل توافر اللقاح، وكما لدى انتشار أي وباء، حرص الناس على تجنب التجمعات والأماكن المزدحمة خشية التقاط الفيروس، وطاول هذا الحظر الأطفال بصورة خاصة، ومنعوا من ممارسة حياتهم الطبيعية خوفاً من إصابتهم بالفيروس والتعرض إلى خطر الشلل. وفي فترات انتشار الوباء، كان الأطفال المصابون يعزلون في المستشفيات، ومن تعرضوا إلى مضاعفات المرض كانوا يوضعون في أجنحة خاصة مع أجهزة عرفت بالرئات الحديدية لمساعدتهم على التنفس، بما أن الفيروس يصيب الجهاز التنفسي أيضاً، وذلك ليعيشوا لفترة أطول.
صحيح أن مرض شلل الأطفال كان موجوداً من آلاف السنوات، لكن الطبيب البريطاني مايكل أندروود كان أول من تعرف إليه بدقة كحالة صحية مميزة عام 1789. وحدد الفيروس الذي يسببه للمرة الأولى عام 1908 من قبل العالم النمسوي كارل لاندشتاينر، لكن في أواخر القرن الـ19، تفشى المرض على نطاق واسع في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وأصبح في القرن الـ20 أحد أمراض الأطفال الأكثر إثارة للقلق، وقد شكل هاجساً آنذاك، حتى إن القطاع الصحي عانى الضغوط الزائدة جراء انتشار الفيروس. ففي عامي 1952 و1953 شهدت الولايات المتحدة الأميركية تفشياً لحالات شلل الأطفال مع ارتفاع كبير في عدد الحالات المسجلة من 20 ألف إصابة إلى 58 ألفاً و35 ألفاً في السنة، لذلك استثمر أصحاب المؤسسات التجارية بملايين الدولارات في الأبحاث بهدف التوصل إلى لقاح مضاد للوباء إلى أن طور الطبيب الأميركي والباحث في علم الفيروسات جوناس سولك مع زملائه، لقاح شلل الأطفال. وبعدما أجرى عليه أول اختبار عام 1952 منح ترخيصاً بالاستخدام في الولايات المتحدة عام 1955. بعدها، عام 1961، طور ألبرت سابين اللقاح الفموي ومنح الترخيص في الولايات المتحدة، واعتمد رسمياً عام 1962. ومنح لقاح ثالث لشلل الأطفال ترخيصاً عام 1963. وساعد وجود هذه اللقاحات في السيطرة على المرض ووقف انتشاره في الدول الصناعية بفضل حملات التلقيح المكثفة، قبل أن تتم السيطرة عليه على مستوى العالم.
بعد تكثيف الجهود وحملات التلقيح أصبحت معظم دول العالم خالية من فيروس شلل الأطفال (غيتي)
وسجلت حالة شلل الأطفال الأخيرة في الولايات المتحدة عام 1979. وأعلنت الدول تباعاً خلوها من المرض والسيطرة عليه بصورة تامة. وتكثفت الجهود الدولية للقضاء على المرض في مختلف أنحاء العالم، وتعاونت منظمة الصحة العالمية مع "اليونيسيف" ومنظمة "الروتاري" لمكافحته والقضاء عليه عبر تكثيف حملات التحصين باللقاح الفموي. وفي عام 2000 أعلن رسمياً عن القضاء نهائياً على مرض شلل الأطفال في 36 دولة تقع غرب المحيط الهادئ. ثم عام 2002 أعلنت أوروبا أنها خالية من شلل الأطفال. ومن عام 2008 بات المرض محصوراً ومستوطناً في أربع دول فحسب هي الهند وباكستان ونيجيريا وأفغانستان. ومن عام 2022 لم يعد الفيروس منتشراً إلا في باكستان وأفغانستان اللتين تبقيان وحدهما موبوءتين.
خطر انتقال الفيروس يبقى موجوداً
على رغم توقف انتقال عدوى الفيروس في معظم دول العالم يبقى احتمال انتشاره في دول كانت خالية منه وارداً. ومن الممكن انتقال الفيروس من مناطق موبوءة إلى أخرى خالية منه، وعندها يمكن أن يتطور وينتشر في مناطق عديدة، خصوصاً حيث تقل حملات التلقيح وتتراجع مستويات الرعاية الصحية، مما يؤكد أهمية الحرص على برامج وحملات التلقيح، علماً أنه في المناطق التي لا ينتشر فيها الفيروس، يعد لقاح الأطفال غير النشط اللقاح الأمثل، فيما يزيد استخدام اللقاح الحي في المناطق التي ترتفع فيها حالات الإصابة بالفيروس، إذ سرعان ما أصبح التلقيح خطوة فاعلة وحلاً جذرياً لتأمين الحماية التامة من الفيروس، وانطلاقاً من ذلك، يجزم الأطباء أنه من الممكن القضاء على الفيروس وحماية الأطفال بصورة تامة من هذا الخطر الذي يمكن أن يتعرضوا له، خصوصاً إذا كانوا دون سن السنوات الخمس لاعتبارهم الفئة الأكثر عرضة للخطر.
حتى اليوم يستخدم نوعان من لقاح شلل الأطفال، ويتألف الأول من جرعة من فيروس شلل الأطفال غير النشط تعطى بالحقن في العضل، أما اللقاح الفموي المضاد لشلل الأطفال، فيعطى في صورة قطرات بالفم باستخدام فيروس شلل الأطفال الضعيف أو المخفف. وتجدر الإشارة إلى أن لقاح شلل الأطفال يؤمن مناعة طوال الحياة لدى تلقيه، عبر تحفيز الاستجابة المناعية في الجسم لاكتساب المناعة في ما يعرف بعملية التحصين، إذ يمنع اللقاح انتقال الفيروس البري ويحمي الأفراد في المجتمع من الإصابة.
لبنان خالٍ من فيروس شلل الأطفال
واستطاع لبنان أن يصبح بلداً خالياً من شلل الأطفال، وهو كذلك حتى اليوم، حيث ما من حالات مسجلة، إذ تأمن اللقاح في البلاد من سبعينيات القرن الماضي، واتخذت الدولة قراراً بإلزامية لقاح شلل الأطفال في مرسوم، وأدرجته ضمن برنامج التلقيح الإلزامي. وهذا ما أكدته رئيسة دائرة الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة العامة رندا حمادة لـ"اندبندنت عربية"، مشيرة إلى أنه جرى العمل على البرنامج الوطني وعلى استراتيجية وطنية للتلقيح بالشراكة مع الجهات الدولية، "إذ وضعت خطة شاملة مع الشركاء المحليين والدوليين وتعززت الشراكة على صعيد المناطق مع الجمعيات الأهلية والبلديات في تكثيف حملات التلقيح، والأهم أننا جعلناها خدمة أساساً ومدخلاً في الرعاية الصحية، كما سمحت الشراكة مع القطاع الخاص بالتعاون مع 150 طبيباً للتلقيح في عياداتهم الخاصة من دون مقابل، باستثناء رسم المعاينة الطبية، بكسب ثقة المواطنين، فباتوا يدركون أن وزارة الصحة العامة تؤمن اللقاح، ما دفعهم إلى إعطائه لأطفالهم بانتظام لحمايتهم من المرض"، لكن منذ عام 2011، شكلت ظروف الحرب في سوريا ووصول النازحين بأعداد كبرى إلى لبنان ومنهم الأطفال، عامل خطر بالنسبة إلى البنان في هذا المجال. وأثار هذا القلق احتمال عودة المرض إلى البلاد من خلالهم، خصوصاً أن ظروف الحرب والأزمات من العناصر التي يمكن أن تسهم في عودة المرض مع انخفاض معدلات التلقيح. وأكدت حمادة أن وزارة الصحة العامة حرصت على التعاون مع الأمن العام اللبناني عبر إقامة نقاط تحصين على الحدود بالتعاون مع الشركاء المعنيين "كما كان هناك حرص على تفعيل مراكز التطعيم، حتى إنه وضع أطباء مشرفون وممرضون عند نقاط التحصين لإجراء اللقاح لكل طفل يدخل عبر الحدود بغض النظر عن سنه، وتم تعزيز التلقيح الروتيني للبنانيين وغير اللبنانيين بالتعاون مع اليونيسيف حتى ترسخت فكرة التلقيح لدى الجميع وبات إجراء روتينياً".
وفي مرحلة لاحقة، من المؤكد أن جائحة كورونا قلبت المقاييس وشكلت ضربة للقطاع الصحي أيضاً على مستوى التلقيح، لا في لبنان فحسب، بل في العالم ككل، إذ تراجعت معدلات التلقيح بسبب مخاوف الناس من اللقاحات من جهة، بعد كل ما جرى التداول فيه في شأن لقاح كورونا، وبسبب الخوف من الفيروس أيضاً ومن التعرض له في العيادات ومراكز التلقيح. فبسبب الخلل الحاصل على مستوى عالمي، حصل هبوط حاد في معدلات التلقيح في العالم ككل، وفي لبنان بصورة خاصة، لعبت الأزمة دوراً في تعزيز هذا النقص، خصوصاً بسبب انقطاع عدد كبير من اللقاحات في البلاد وبسبب تراجع القدرة المعيشية للبنانيين أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خطر؟
وحول خطر عودة شلل الأطفال الذي شكل هاجساً آنذاك في القطاع الصحي بعد سنوات من إعلان البلاد خالية من شلل الأطفال أشارت حمادة إلى أنه كأي بلد في العالم تراجعت معدلات التلقيح الروتيني لشلل الأطفال في لبنان في تلك الفترة بنسبة 27 في المئة، "مما أثار القلق ودعا إلى تعزيز التعاون مع مختلف الجهات لاستعادة هذه الذهنية ونشر فكرة التلقيح الروتيني وأهميته، وجرى العمل مجدداً في تلك المرحلة على تعزيز التلقيح بالتعاون مع الصليب الأحمر في نقاط معينة في المناطق اللبنانية المختلفة. ووضعت خطة تقضي بعدم السماح لأي طفل بالدخول إلى الأراضي اللبنانية ما لم يكن قد تلقى اللقاح. أما في حال عدم تلقيه لقاح شلل الأطفال، فيحول إلى أقرب مركز تلقيح ليتلقاه قبل دخول الأراضي اللبنانية. وتم تعزيز حملات التلقيح على صعيد المدارس أيضاً عبر توزيع اللقاحات المجانية".
"أما اليوم، فمع الإعلان عن وجود حالات في غزة، من المؤكد أن الخطر يهدد لبنان من جديد بعودة شلل الأطفال إليه في حال عدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لرفع مستويات التلقيح والوعي واتخاذ كل إجراءات الوقاية اللازمة، وهناك خوف كبير اليوم لأن ثمة عاملين في المجتمع الدولي في غزة، وقد ينقلون الفيروس إلى لبنان الذي بات عرضة للخطر في حال عدم الحرص على التحصين. فمن الممكن أن ينقل راشد الفيروس إلى طفل دون سن السنوات الخمس، فيعرضه للخطر إذا لم يكن محمياً. حتى إن الخطر موجود بوجود حالات شلل أطفال في العراق أو في أي بلد مجاور، لاعتبار أن لبنان يستقبل باستمرار قادمين منه، لذلك يتم التشديد على أهمية وعي الأهل والحرص على تلقيح أطفالهم من دون تأخير، إلى جانب دور المدارس والإعلام، خصوصاً أن الوزارة تؤمن اللقاح بجودة عالية مع دعم من الاتحاد الأوروبي"، بحسب حمادة، وهذا ما يساعد على التوصل إلى حماية تامة للمجتمع اللبناني.
تجدر الإشارة إلى أنه إذا أصيب طفل دون سن السنوات الخمس لا مناعة لديه وهو غير محصن، فمن الممكن أن يصاب بالشلل، وهنا يكمن الخطر، بعدما كان من الممكن إزالة الخطر قبل سنوات مضت، علماً أن لبنان مصنف ضمن الدول عالية الأخطار لجهة انتشار شلل الأطفال، خصوصاً أنه في الدول المجاورة، ما من حالات شلل أطفال مسجلة، إلا أن الفيروس موجود في الصرف الصحي، فتراجع معدلات التلقيح يعيد هذا الخطر إلى الواجهة ويعرض الأطفال دون سن السنوات الخمس للخطر، علماً أن فيروس شلل الأطفال مرض شديد العدوى قد يصيب أي طفل حتى عمر خمس سنوات وتظهر أعراضه الأولى كارتفاع الحرارة والإجهاد والصداع والتقيؤ والألم في الأطراف، ويمكن أن يسبب شللاً أحياناً، وعندها هو غير قابل للمعالجة حتى الآن، حتى إنه في الحالات المتقدمة يمكن أن يؤدي إلى الوفاة. وقد ينتقل الفيروس من براز طفل يحمل الفيروس إلى آخرين في الغذاء الملوث، فيتكاثر في الأمعاء في حال لم يكن هؤلاء الأطفال محصنين باللقاح، ويهاجم الجهاز العصبي، وقد يسبب شللاً في أحد الأطراف خلال ساعات لا أكثر، لكن نادراً جداً ما يسبب الفيروس الشلل بعد عمر خمس سنوات.