هل تنتصر أميركا الانعزالية على الأممية؟

آخر تحديث 2024-09-25 14:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

الإدارة الأميركية المقبلة ستجد ذاتها مندمجة أكثر في شؤون وشجون العالم بأدوات مغايرة   (رويترز)

على بعد خمسة أسابيع تقريباً من انتخابات الرئاسة الأميركية، وضمن كثير من التساؤلات المثيرة والخطرة التي تواجه البلاد والعباد، يقف نفر من كبار الباحثين متسائلين هل يمكن أن تغير الرئاسة المقبلة مسارات ومدارات السياسات الأميركية الخارجية، إما لجهة مزيد من الدخول في قضايا العالم المعاصر وتحدياته، وبما يعنيه ذلك من مشاركات جدية وجذرية قد تلزمها خوض المعارك على صعد عدة، عسكرية وسياسية واقتصادية وتكنولوجية واستخباراتية ومجتمعية، أم الخيار الأكثر راحة وهدوءاً، أي ترك العالم الخارجي يدير أو يدمر نفسه كيفما شاء له، بعيداً من تحمل أعباء القيادة على النحو الحاصل في حاضرات أيامنا؟

تساؤل قد يسهم الجواب عنه في معرفة أوضاع النظام العالمي المقبل وينهي فترة الضبابية الأممية الحادثة من حولنا، بمعنى هل أميركا راغبة بالفعل في الشراكة الإستراتيجية الكونية أم أن هناك من لا يزال يعتقد أنها ليست شرطي العالم أو دركه، وعليه فليست مطالبة بتحمل التبعات والأعباء القائمة والمقبلة؟

ولعل من نافلة القول إن أميركا تكاد اليوم تنقسم إلى فسطاطين، بين مؤيد للأممية ومعارض لها، وراغب في الانعزالية ومن يخشى منها، ففي أعقاب المناظرة الجمهورية الأولى التي جرت بين المتنافسين داخل الحزب للحصول على ترشيحه، استشعر كثير من الأميركيين القلق من وصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وسبب القلق هو التراجع عن فكرة الانغماس في شؤون المسكونية وساكنيها عند بعض المرشحين، وحتى لو وجد مرشحون آخرون معارضون لهذا النحو.

وكشفت أول مناظرة بين مرشحي الحزب الجمهوري عن انقسامات كبرى بشأن السياسات الخارجية، ففي حين دافع نائب الرئيس الأميركي السابق مايك بنس وسفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي عن دعم أميركا لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، أعرب حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتس ورجل الأعمال الهندي الأصل راماسوامي فيفيك عن تشككهما حيال جدوى مشاركة أميركية من هذا النوع، ولم يشارك المرشح الذي سيضحي لاحقاً الأوفر حظاً، دونالد ترمب، في ذلك اللقاء، وبالتالي لم يعرف في ما يفكر وإن كان الجميع يقطع بأنه سيد الانعزاليين إن جاز التعبير.

 السؤال المهم هنا: هل الفكر الانعزالي تهمة موجهة إلى الجمهوريين وعلى رأسهم ترمب وحسب؟ وماذا عن آراء ديمقراطية تقول إنه يجب عليهم أن يرفعوا شعار "أميركا أولاً" كما يفعل أنصار ترمب من جماعة "ماغا"؟ ثم وهذا هو الأهم في التأصيل: هل الفكر الانعزالي في الداخل الأميركي طرح وليد الساعة وإشكالاتها؟ أم أنه قضية قديمة وبهذا جذورها الضاربة في القدم الأميركي؟

أميركا وجذور قديمة للانعزالية

لا يبدو أن الحديث عن الانعزالية في الداخل الأميركي حديث جديد، فهناك بالفعل جذور قديمة ربما تبدأ من عند أول رئيس للولايات المتحدة جورج واشنطن، والذي حذر من فكرة انضمام أميركا إلى العالم الخارجي ودعا إلى تقوقعها حول ذاتها، غير أن أحداثاً بعينها خلال ثلاثينيات القرن الـ20 مثل الجمع بين الكساد الأعظم وذكريات الخسارة المأسوية في الحرب العالمية الأولى، دفعت الرأي العام وكثيراً من الساسة الأميركيين إلى تفضيل خيار الانعزالية، وعلى رغم أن الولايات المتحدة اتخذت تدابير لتجنب الصراعات السياسية والعسكرية عبر المحيطات لكنها استمرت في التوسع اقتصادياً لحماية مصالحها في أميركا اللاتينية.

استند زعماء الحركة الانعزالية إلى التاريخ لتعزيز موقفهم، ففي خطاب الوداع دعا الرئيس الأول جورج واشنطن إلى عدم التدخل في الحروب والسياسات الأوروبية، وعلى مدى جزء كبير من القرن الـ 19 أتاح اتساع المحيطين الأطلسي والهادئ للولايات المتحدة التمتع بنوع من "الأمن الحر" والبقاء منفصلة إلى حد كبير عن صراعات العالم القديم، فعاش الأميركيون طويلاً مستغرقين في فكرة الانعزالية منذ مولد الدولة وحتى عام 1941 حين قرروا خوض الحرب العالمية الثانية، مما يعني هيمنة الجذور الانعزالية على السياسة الخارجية وتأثير الآباء المؤسسين الذين رسموا ما يشبه المذهب السياسي المنادي بأنه "يجب أن يكون لأميركا أقل قدر ممكن من الارتباط السياسي" مع الدول الأجنبية.

غير أن هذه الروح لم تلبث أن أخذت في التغير حتى قبل الانضمام إلى دول الحلفاء عام 1941، ففي عام 1890 حذر الأدميرال ألفريد ثاير ماهان الذي كان في أواخر القرن الـ 19 واحداً من أشد المدافعين عن البحرية "المحيطة" من "العزلة التي نفرضها على أنفسنا"، وتوقع أنه "عندما ندرك الفرص المتاحة لتحقيق المكاسب في الخارج فإن مسار المشروع الأميركي سيشق قناة الوصول إليها".

 ومع الوصول إلى نهاية الحرب العالمية الأولى استخدم أنصار عصبة الأمم صراحة تسمية الانعزالية ضد أولئك الذين عارضوا مشاركة الولايات المتحدة في الهيئة العالمية، وفي أعقاب رفض مجلس الشيوخ مشاركة الولايات المتحدة عصبة الأمم عامي 1919 و1920، كرست منظمات مثل "مجلس العلاقات الخارجية" و"مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي" نفسيهما لإدارة وتعزيز النزعة الدولية والكشف عن أخطار الانعزالية.

على أنه ورغم ما جرى منذ الحرب العالمية الثانية من مرحلة الدخول، وما تلتها من مراحل المواجهة خلال الحرب الباردة، وصولاً إلى السيادة والهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ترى هل لا تزال هناك أصوات أميركية تميل إلى تغليب سياسات العزلة؟

الانعزالية مشاعر متجددة في أميركا

فقدت الفكرة الانعزالية صدقيتها بعد الهجوم الياباني على "بيرل هاربور" الذي أجبر الولايات المتحدة على خوض الحرب العالمية الثانية عام 1941، وقد دفع هذا الهجوم الغادر بعض كبار الأصوات الانعزالية البارزة مثل عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية ميشيغان السيناتور آرثر فاندنبرج إلى تغيير مواقفهم والتحول إلى دعاة لما سماه "التعاون الدولي والأمن الجماعي من أجل السلام"، وقد "اتخذ هذا التحول شكلاً راسخاً في فترة ما بعد الظهر من هجوم بيرل هاربور"، كما كتب السيناتور نفسه "لقد أنهى ذلك اليوم الانعزالية بالنسبة إلى أي شخص واقعي".

على أن المتابع المحقق والمدقق في الشؤون الأميركية يرصد خلال العقد الثاني من القرن الـ 21، ولا سيما بعد مغامرات إدارة جورج بوش الابن في العراق وقبلها أفغانستان وغيرهما من البقاع والأصقاع، دعوات متصاعدة إلى العودة من جديد والتمترس وراء المحيطين الأطلسي من الشرق والهادئ من الغرب، درءاً للخسائر التي يمكن أن يتسبب فيها مزيد من التفاعل مع مشكلات العالم الخارجي.

ومنذ عام 1974 أجرى "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" استطلاعاً للرأي بين الأميركيين حول ما إذا كان من الأفضل لعب دور عالمي نشط أو البقاء بعيداً من الشؤون العالمية، وعلى مدى تلك الفترة كان نحو ثلث الجمهور الذين يستعيدون تقاليد القرن الـ 19 من المنعزلين باستمرار، وبلغ هذا الرقم 41 في المئة خلال عام 2014، ولكن على عكس الأسطورة الشعبية لم يكن عام 2016 نقطة الذروة للانعزالية بعد عام 1945.

وفي وقت الانتخابات قال 64 في المئة من الأميركيين إنهم يفضلون المشاركة النشطة في الشؤون العالمية، ثم ارتفع هذا الرقم إلى 70 في المئة خلال 2018، وهو أعلى مستوى مسجل منذ 2002، فما الذي جرى إذاً وعاد بهواجس الانعزالية لتخيم من جديد على الداخل الأميركي؟

 

 الجواب عند المنظر السياسي الأميركي البروفيسور جوزيف ناي الابن، إذ يقترب من منطقة أوكرانيا والخوف من الفشل الأميركي الكبير المحتمل هناك، مما يمكن أن يتسبب في صراع عالمي لا أحد يرغبه، غير أن الأمر من وجهة نظره لا يتصل بالوقائع العسكرية على الأرض وحسب، ولكنه يمتد بقوة إلى عالم الاقتصاد ولا سيما في ظل المليارات الأميركية التي تدفقت خلال العامين الماضيين على كييف من غير فائدة تذكر، على رغم الأوضاع الاقتصادية المأزومة والديون الأميركية التي تجاوزت الـ 35 تريليون دولار، عطفاً على تفشي الفقر بين نحو 40 مليون أميركي.

هل أوكرانيا إذاً هي السبب في تنامي دعوة التيارات الانعزالية وقبل الانتخابات الأميركية المقبلة؟

 يقطع البروفيسور ناي بأن أولئك الذين يزعمون أن أميركا ليست لديها مصلحة وطنية مهمة في مساعدة أوكرانيا يرتدون غمامة تاريخية وسذاجتهم، إن لم يكن سوء نيتهم، يجب أن تمنعهم من الترشح للرئاسة، فما الذي يقصده ناي على وجه الدقة من هذه الكلمات؟ وهل هي دعوة مقنعة للفت النظر إلى المرشح الجمهوري دونالد ترمب بنوع خاص، ولا سيما أن الاتهامات تطاوله من كل صوب وحدب، وتطارده باعتباره "سيد الانعزالية" المحدثة إن جاز التعبير؟

هل دونالد ترمب انعزالي النزعة؟

عندما افتتح الرئيس السابق ترمب الدورة الـ 74 للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2019، بدا في أعين بعضهم وكأنه يكرس نموذجاً لأميركا المتراجعة الانعزالية، أو هكذا تم تصويره، والذين ذهبوا في هذا السياق اعتمدوا على أن ترمب رفض حضور اجتماع طارئ للمناخ في قمة مجموعة السبع في مدينة بياريتز الفرنسية خلال أغسطس (آب) 2019، ووقتها أصيب زعماء العالم والمنظمات غير الحكومية بالذهول، وعزز هذا الاتهام انسحاب ترمب مرة أخرى من قمة المناخ التابعة للأمم المتحدة في سبتمبر نفسه بعد انعقادها بـ 10 دقائق، وفي ذلك الوقت قال كثيرون إن جهود ترمب لسحب الولايات المتحدة من المسرح العلامي ليست جديدة، وتغير المناخ ليس سوى الضحية الأحدث للعزلة الأميركية الجديدة، فمنذ عام 2017 عمل ترمب ووزراء خارجيته بصورة منهجية على فصل القيادة المركزية في الخارج عن القيم الأميركية الأساس، وفي مايو (أيار) 2017 تخلى وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون عن حقوق الإنسان الدولية باعتبارها ركيزة للسياسة الخارجية، وخلال خطاب ألقاه أمام موظفي وزارة الخارجية زعم تيلرسون أن التمسك بخط ثابت ضد انتهاكات حقوق الإنسان "يخلق عقبات" أمام تعزيز مصالحنا الوطنية.

ثم جاء حظر المسلمين، وهو جهد متضافر من جانب ترمب وقتها لفرض نسخته الشخصية من التمذهب الديني، بل إنه وصف الشرق الأوسط ذات مرة بأنه لا يوجد فيه سوى الدماء والرمل والموت، وهو ما كان يعني بعبارة صريحة غير مريحة أن وقت الانعزال من هناك قد حان، وأن على أميركا أن تترك تلك المنطقة مرة وإلى الأبد لأقدارها حيث بات الموت عادة.

كان معنى ذلك عند كثير من المتابعين لتطورات مراحل السياسة الخارجية الأميركية أن واشنطن تستقيل، أو تكاد تفعل ذلك، من موقعها التاريخي في النظام العالمي القائم كرئيس لمجلس الإدارة، مما يفقدها الشيء الكبير من مكانتها ويعكس رؤاها لفكرة القرن الأميركي.

على أن هذه الاتهامات خضعت لمراجعة معمقة من قبل بعض كبار الكتاب والباحثين الأميركيين مثل جيمس م. ليندسي الذي يدفع عن ترمب هذه الفرية ويفسر الفرق بين رؤية ترمب لفكرة الالتزامات التي تعيق انطلاقة أميركا إلى الأمام، وبين التراجع والانحسار في الداخل.

 

ترمب ليس انعزالياً حقيقياً

يقودنا ليندسي إلى ثمانية قرون خلت حين كان شعار "أميركا أولاً" هو المفضل لأولئك الذين أرادوا أن تبقى الولايات المتحدة بعيدة من الحرب في أوروبا، لكن هل يعني ذلك بالضرورة أن ترمب انعزالي طالما رفع شعار "أميركا أولاً"؟

بطبيعة الحال، والجواب لليندسي، يعتمد ما إذا كان ترمب انعزالياً أم لا على ما يعنيه المرء بالمصطلح، فإذا كانت الانعزالية تعني ببساطة التشكيك في كيفية ممارسة السياسة الخارجية الأميركية على مدى العقود الثمانية الماضية، والشك في الفوائد التي تعود على الولايات المتحدة من ممارسة القيادة العالمية، فإن ترمب مؤهل لوصف الانعزالية منذ نشر إعلاناً على صفحة كاملة في صحيفة "بوسطن جلوب" و"نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" في سبتمبر (أيلول) 1987 مهاجماً اليابان ودولاً أخرى "لاستغلالها الولايات المتحدة"، فقد كان يزعم أن أصدقاء أميركا وحلفاءها كانوا يدفعون واشنطن إلى التضحية بدم أميركا وثرواتها "لحماية مصالحهم"، لكن، وهنا بيت القصيد، إذا كان للانعزالية أي معنى يتجاوز كونها لقباً تستحضره نخب السياسة الخارجية التقليدية ضد منتقديها، فهي دعوة إلى الانفصال الجيوسياسي.

وكما كتب الأميركي تشارلز كوبشان في كتابه المتعمق والمتأني "الانعزالية: تاريخ جهود أميركا لحماية نفسها من العالم"، فإن الانعزالية إستراتيجية كبرى تهدف إلى فك الارتباط بالقوى الأجنبية وتجنب الالتزمات الإستراتيجية الدائمة خارج الوطن الأم لأميركا الشمالية.

 هل يعني التحليل أن ترمب ليس انعزالياً؟

غالب الظن كذلك، وهنا يبتعد ترمب من الانعزاليين الحقيقيين مثل السيناتور راند بول من كنتاكي، فلقد كان دائماً أقل اهتماماً بما إذا كانت أميركا داخلة في العالم وأكثر اهتماماً بما تحصل عليه من هذا الدخول، وعلى سبيل المثال لا تستند شكاوى ترمب في شأن حلف شمال الأطلسي والتحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية إلى الخوف من توريط الولايات المتحدة في الشؤون الجيوسياسية لدول أخرى،  فلقد كانت شكوى ترمب بدلاً من ذلك هي أن هولاء الحلفاء لم يدفعوا ما يكفي في مقابل امتياز الحماية الأميركية، فهل حب ترمب للسياسات الحمائية والرسوم الجمركية يجعل منه بالضرورة صاحب سياسات انعزالية؟

قطعاً لا، فخلال القرن الـ 19 عندما كانت قاعدة السلوك العظيمة التي وضعها جورج واشنطن "للابتعاد من التحالفات الدائمة" تشكل المبدأ الأساس للسياسة الخارجية الأميركية، أشعلت سياسة الرسوم الجمركية معارك سياسية مريرة، وهناك امتدت خطوط الصدع بين الولايات المتحدة ذات المصالح الصناعية الكبيرة التي رأت أن الرسوم الجمركية مفيدة للأعمال التجارية والولايات التي تعتمد بصورة أكبر على الزراعة والتي لم تر ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أي وصف إذاً يليق بترمب؟

من الأفضل وصفه بأنه حمائي وقومي، والتمييز بين الاثنين ليس أكاديمياً وحسب، فهو يشير إلى حقيقة مفادها أن عودة ترمب للبيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) المقبل لا تعني انسحاباً حتمياً لأميركا من الشؤون العالمية، وستعتمد الخيارات التي يتخذها إلى حد كبير على ما إذا كان أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة سيوفون بوعودهم ببذل مزيد من الجهد وخلق مساحة له للتفاخر بمهاراته في عقد الصفقات، وربما تكون الزعامة الأميركية أقل في ظل رئاسة ترمب الثانية وإن استمر الوجود الأميركي، فماذا إذاً عن رؤية هاريس لأميركا المقبلة.

كمالا هاريس دعوة ضد الانعزالية

هل كامالا هاريس مع أم ضد تيار الانعزالية؟ المؤكد أنها وحتى لو كانت مع التيار فإنها ستغزل على المتناقضات، بمعنى أن تزايد على المرشح الجمهوري ترمب كي تبدو في أعين مريديها ومناصريها الضد منه، وقد حدث ذلك باكراً في فبراير (شباط) الماضي خلال مشاركتها في فعاليات "مؤتمر ميونيخ للأمن القومي" خلال دورته الـ 60، فقد حذرت مما سمته "أخطار الاستبداد والانعزالية المتنامية" في رفض غير مبطن لرؤية دونالد ترمب العالمية وتهديداته بالتراجع عن الضمانات الأمنية لحلفاء الـ "ناتو" إذا عاد للبيت الأبيض، والادعاءات هنا للديمقراطيين.

وقدمت هاريس في ذلك الوقت دفاعاً واسع النطاق عن نهج إدارة بايدن في التعامل مع التحديات العالمية، وبخاصة في قيادة الدعم الدولي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وجاءت تعليقاتها في وقت تخاطر أوكرانيا بفقدان الدعم الأميركي بسبب الخلل في الكونغرس والمواقف التي اتخذها ترمب وكثير من أنصاره، فهل في موقف هاريس ختل بدرجة أو بأخرى؟

 ذلك كذلك، إذ إن ترمب لم يصرح أبداً بأنه يقف في صف بوتين بل كل ما أشار إليه إنما جاء في إطار قدراته الدبلوماسية على التواصل مع سيد الكرملين ومن ثم إنهاء هذه الحرب بوساطة أميركية، ومن غير أن يعني ذلك ترك أوكرانيا لقمة سائغة للسيلوفيكي الروسي، على أن علامة الاستفهام المثيرة هنا هل من أصوات ديمقراطية تطالب بتوجهات انعزالية فعلية؟

ينصح أستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج البروفيسور تاون تشارلز كوبشان عبر مجلة "الشؤون الخارجية" ذائعة الصيت القائمين على الحزب الديمقراطي بأن أفضل طريق لسحب البساط من تحت أقدام ترمب ليس الارتداد عن حركة "أميركا أولاً" التي يؤمن بها تيار"ماغا" المتنامي بقوة خلال الوقت الراهن ويتبناها المرشح الجمهوري ترمب، أو النظر إليها باعتبارها مجرد عمل شمشوني على صعيد العلاقات الخارجية، بل إن الطريق يتطلب تفكيك هذه الحركة وفهم جاذبيتها السياسية الكبيرة والاستيلاء على عناصرها الجديرة بالاهتمام.

 

ما المطلوب فعله؟

ببساطة إذا كان الديمقراطيون راغبين في هزيمة ترمب وأجندته الانعزالية الجديدة فيتعين عليهم أن يتخلصوا من العناصر المركزية لبرنامجه "أميركا أولاً"، وأن يتحولوا نحو نوع أكثر تواضعاً وضبطاً وواقعية من الحكمة السياسية الأميركية، فهل يعني ذلك أن على الديمقراطيين المزايدة على ترمب، ولا سيما إذا جرت مناظرة ثانية قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة؟

يقول الديمقراطيون الثقات إنه مطلوب إيجاد أرضية مشتركة بين النزعة الدولية الليبرالية التوسعية التي لم تعد قابلة للاستمرار في الداخل أو الخارج، والتجاوزات الخطرة التي من المرجح أن تصاحب عودة ترمب إن عاد بالفعل للرئاسة ثانية، غير أن فكرة التوازن هذه مشكوك فيها ولا سيما أن الصراعات الخارجية خلال الأعوام الأخيرة لا تترك مجالاً لمثل هذه التوازنات، بل تستدعي إما الاندماج الكامل أو الانعزال التام.

المفاضلة بين الأممية والانعزالية

في عام 1897 عندما قرأ مارك توين نعي وفاته قال مازحاً، "إن تقرير وفاتي كان مبالغا فيه"، فهل ينسحب الأمر بالفعل في الداخل الأميركي هذه الأيام على حديث المفاضلة بين الأممية والانعزالية؟

مؤكد هذا، ذلك أن الحديث المتكرر عن تحول الرأي العام الأميركي إلى الانعزالية يستحق رد فعل مماثل، فلربما ضعفت النزعة الدولية الأميركية خلال الأعوام الأخيرة ولكنها لم تمت بعد، وقد توصلت دراسة حديثة أجرتها وكالة "أسوشيتدبرس" و"مركز نورك لأبحاث الشؤون العامة" إلى أن 23 في المئة من الأميركيين يرون أن على الولايات المتحدة أن تتولى دوراً أكثر نشاطاً في حل المشكلات العالمية، فيما قال 36 في المئة إن المستوى الحالي لمشاركة الولايات المتحدة مناسب تقريباً، وفي المقابل أراد 40 في المئة فقط أن تكون الولايات المتحدة أقل نشاطاً، فهل يعني ذلك أن هناك بالفعل توجهاً للانكفاء إلى الداخل؟

ربما يكون هذا هو الانطباع الأول، لكن السؤال المثير كيف يمكن لأميركا أن تستمر الدولة رقم واحد حول العالم إذا أغلقت على نفسها أبواب التعاطي مع العالم الخارجي؟

في مارس (آذار) الماضي طلب "معهد غالوب" من الأميركيين تسمية "أكبر وأخطر عدو" لبلادهم اليوم، فقال 415 شخصاً الصين، و26 في المئة منهم روسيا، وهنا يمكن القطع بأن التهديدات الخارجية باتت تؤثر في مكانة أميركا حول العالم، فيما العقلية الأميركية التي قدر لها أن تستولي على أراضي الهنود الحمر، مع امتداداتها السلطوية، لن تقبل فكرة التراجع.

ويقول قائل إن الانعزالية هي الوجه الآخر لمرحلة "فرط الامتداد الإمبراطوري" التي تعيشها الكيانات العظمى قبل بداية زمن الأفول، ونعم ربما يكون هذا على الصعيد اللوجستي، لكن العالم اليوم يعيش حالاً مثيرة وخطرة من الهيمنة السيبرانية تارة والمعلوماتية أخرى، والنصر والهزيمة لن يكونا موصولين بتحرك الأساطيل أو انطلاق قاذفات القنابل بقدر التمكن من صناعة الابتكار على الصعدة كافة، وفي مقدم تلك الصناعات يأتي الحديث عن زمن الذكاء الاصطناعي ثم السوبر ذكاء اصطناعي، والذي يجعل قضية الانعزالية تتجاوز حدود الجغرافيا والعوالم الحقيقية إلى صراعات ما أنزل الله بها من سلطان في العالم الرقمي والافتراضي.

 هل من خلاصة؟

المؤكد أن الإدارة الأميركية المقبلة ستجد ذاتها مندمجة أكثر في شؤون وشجون العالم ولكن بأدوات مغايرة، مما يعني أن دعوات الانعزالية قبل 100 عام لن يكون لها موقع أو موضع خلال العقد الرابع من القرن الـ 21 وما يليه وحتى إشعار آخر.