ليست النساء وحدهن من يتعرضن للتحرش، فقد يؤثر التحرش أيضاً في حياة الرجل (غيتي)
"تعرضت للتحرش من جارتنا التي تبلغ 45 سنة وكنت بعمر 12 سنة، كانت تملك دكاناً صغيراً وتقدم لي العصير والشوكولاتة مجاناً. وفي أحد الأيام طلبت مني أن أساعدها في ترتيب بعض الأغراض وأقفلت المتجر علينا، وبدأت بلمسي في أماكن خاصة من جسمي بطريقة غير لائقة. شعرت بالخجل أولاً، وبعدها أعجبني الشعور على رغم أنه كان مرفقاً بإحساس بالذنب. وعندما قلت إنني سأخبر أمي، هددتني بأنها ستقول إنني أسرق الحلوى من الدكان".
يخبر جهاد (اسم مستعار) بقصته التي حدثت منذ أكثر من 30 عاماً. ويقول إنها شوهت طفولته، فبدلاً من أن يكتشف الأمر بطريقة مناسبة لعمره وجد نفسه بعد فترة وكأنه في مصيدة، ولم تعُد تعجبه إلا النساء الكبيرات في السن، حتى إن علاقته الزوجية لاحقاً لم تكُن صحية لفترة طويلة. لكن الأمر جعله أكثر تيقظاً حيال الاهتمام بأولاده وسؤالهم الدائم عما يتعرضون له لتجنيبهم الأمر نفسه قدر الإمكان.
لم يكُن سهلاً أن يبوح جهاد بالأمر قبل أن يخضع لعلاج نفسي، ويقول إن زوجته ساعدته بعد المرور بأزمات عدة بينهما، وأقنعته أن يستشير معالجاً نفسياً ليعيد التوازن والثقة إلى حياته.
أما زياد، فاعتبر أن السيدة التي تحرشت به أول مرة فتحت عينيه على الحياة، بعدما أصبح جريئاً كفاية ليقدِم على العلاقات مع الجنس الآخر بسبب "الخبرة" التي اكتسبها. ولا يظن أن للأمر أية آثار سلبية. ويقول، "بالنسبة لي، هذا ما جعلني رجلاً قبل الأوان". تعرض زياد للتحرش وهو في عمر 15 سنة من قبل جارته البالغة من العمر نحو 30 سنة.
ماذا يسبب التحرش؟
يعرّف مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) التحرش كفعل جنسي يقوم به أو يحاول القيام به شخص من دون موافقة الضحية، أو ضد شخص غير قادر على الموافقة أو الرفض. إنها قضية صحية عامة تتطلب اهتماماً مجتمعياً وقضائياً كبيراً. ويُعرف التحرش أيضاً باسم الإيذاء الجنسي. ويُعتقد بأن الرجال أقل تأثراً بالإيذاء الجنسي. لكن الأدلة تدعم فكرة أن الإيذاء الجنسي يؤثر في الضحايا الذكور عقلياً بقدر ما يؤثر في الإناث، وربما يكون مرتبطاً بنتائج أسوأ.
في ورقة بحثية تحت عنوان "ضحايا الاعتداء الجنسي من الذكور: مراجعة للأدبيات" نشرت منذ أيام على موقع المكتبة الوطنية للطب (NLM) ذكرت أن أكثر من 27 في المئة من الرجال وأكثر من 32 في المئة من النساء تعرضوا للاعتداء الجنسي في وقت ما من حياتهم.
ولهذا الإيذاء تأثير سلبي مباشر في الصحة الجسدية والعقلية لأولئك الذين يتعرضون له، مما يؤدي إلى إصابة جسدية على المديين القصير والطويل والخوف والقلق واليأس واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) وانخفاض احترام الذات والمشكلات الاجتماعية، وقد يصل إلى التفكير في الانتحار. وإلى جانب الآثار الاجتماعية والاقتصادية الأخرى مثل عدم القدرة على العمل والتسرب من المدرسة والوصم والنبذ من قبل مجتمعاتهم، فإنه يرتبط أيضاً بزيادة خطر مشكلات الصحة الجنسية والإنجابية.
وتشير التقديرات في الدراسة إلى أن مساعدة ودعم الضحايا الذكور تأخرا بأكثر من 20 عاماً عن مساعدة الإناث، فالضحايا الذكور لديهم موارد أقل ووصمة عار أكبر من ضحايا الاعتداء الجنسي الإناث.
قبل عام 1994، كان التعريف القانوني للاغتصاب في بريطانيا يقتصر على حالات الإيلاج المهبلي القسري أو غير الموافق عليه، مما يعني استبعاد الضحايا الذكور، وكانت حالات الإيلاج القسري في الشرج تندرج ضمن التعريف القانوني لما يسمى "اللواط" الذي يعاقب عليه بغرامة أخف بكثير.
معضلة البوح
وتشير الإحصاءات إلى أن التحرش الجنسي بالرجال يحدث بمعدلات ليست ضئيلة، فتقرير المركز الوطني للإحصاءات العدلية National Crime Victimization Survey (NCVS) في الولايات المتحدة الأميركية لعام 2020 يفيد بأن نحو 17 في المئة من ضحايا التحرش الجنسي في الولايات المتحدة هم رجال، وهذه النسبة تظهر أن نحو واحد من كل ستة رجال تعرض لنوع من أنواع التحرش الجنسي خلال حياته.
وفي بريطانيا، وجدت دراسة أجرتها منظمة YouGov عام 2016 أن نحو 12 في المئة من الرجال تعرضوا لتحرش جنسي في مكان العمل، بينما أشارت دراسة أخرى أجرتها الخدمات الصحية الوطنية البريطانية NHS إلى أن سبعة في المئة من الرجال تعرضوا للتحرش الجنسي الجسدي، وعلى رغم أن النسبة قد تبدو منخفضة مقارنة بالنساء، لكنها لا يستهان بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد يكون من بين الأسباب التي تجعل التحرش الجنسي بالرجال أقل وضوحاً هو قلة أو عدم الاعتراف به من قبل الضحايا أنفسهم، فالرجال غالباً يترددون في التحدث عن هذه التجارب لأسباب تتعلق بالعار، والخوف من الوصمة الاجتماعية، مثل السيدات، ولكن ما يختلف أيضاً هو الخوف من التشكيك في رجولتهم. وفي دراسة أجرتها جامعة "ليفربول" عام 2019 بيّنت أن 67 في المئة من الرجال الذين تعرضوا للتحرش الجنسي لم يبلغوا عنه، ويرجع ذلك إلى الخوف من عدم تصديقهم أو التقليل من أهمية ما تعرضوا له.
ولأن التحرش الجنسي ارتبط بالنساء بصورة أكبر، بات الضحايا الرجال يواجهون تحديات إضافية عند محاولة التبليغ أو طلب الدعم. والدراسة التي أجراها المعهد الوطني للصحة العقلية في أميركا خير دليل، إذ أشارت إلى أن الرجال يشعرون بوصمة عار أقوى بكثير من النساء في ما يتعلق بالتحرش، مما يؤدي إلى تقليل نسب الإبلاغ.
وفي بلدان عدة مثل أستراليا وكندا وبريطانيا، بدأت المؤسسات البحثية تلتفت أكثر إلى مشكلة التحرش بالرجال، وفي تقرير من المعهد الأسترالي لدراسات الجريمة تبيّن أن واحداً من كل 10 رجال تعرض لنوع من التحرش الجنسي، لكن الغالبية العظمى لم تبلغ.
ويظهر أن التحرش الجنسي بالرجال قضية واسعة الانتشار، لكن يشوبها ضعف التبليغ والاعتراف مما يجعل من الصعب تقدير حجمها الفعلي. وحتى الدراسات المتاحة تشير إلى أن نسبة لا بأس بها من الرجال يعانون التحرش، سواء في أماكن العمل أو في الحياة العامة، لكنهم يواجهون تحديات كبيرة عند محاولة التحدث عن تجاربهم.
آثار عميقة
يترك التحرش الجنسي بالرجال آثاراً نفسية عميقة قد تمتد لتؤثر في حياتهم العائلية والاجتماعية والعملية، وتختلف التأثيرات بحسب الشخص وطبيعة الحادثة، على رغم وجود جوانب نفسية مشتركة تظهر بصورة متكررة. فغالباً ما يشعر الشخص المتحرش به بالخجل والعار، بخاصة أن المجتمع يكرس مفهوم الرجولة كقوة وصلابة، وفي حال تعرضه للتحرش قد يشكك هو أو مجتمعه في قوته أو رجولته، مما يجعله يتردد في طلب المساعدة أو الحديث عن الأمر، مما أكدته دراسة من المعهد الأميركي لعلم النفس (APA)، إذ أشارت إلى أن 78 في المئة من الرجال الذين تعرضوا للتحرش يشعرون بالخجل والعار الشديد مما يمنعهم من الإبلاغ.
وقد يسبب التحرش اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، فيعاني الذين تعرضوا للتحرش استعادة تفاصيل الحادثة بصورة مفاجئة، أو الخوف الدائم من إعادة التعرض لموقف مشابه. وأشارت دراسة أجريت في جامعة "كامبريدج" إلى أن 40 في المئة من الرجال الذين تعرضوا للتحرش أبلغوا عن أعراض اكتئابية طويلة الأمد وصلت إلى الشعور بالعزلة وفقدان الاهتمام بالحياة.
ويؤثر التحرش بصورة سلبية في العلاقات العاطفية والعائلية، فقد يجد الرجال صعوبة في بناء الثقة أو الانفتاح العاطفي بعد تعرضهم للتحرش، بالتالي تحدث مشكلات في العلاقات الزوجية أو حتى يتجنبون الارتباط.
كذلك يلجأ بعضهم إلى الانعزال الاجتماعي أو الرغبة في الانسحاب من المجتمع، خوفاً من التعرض لمزيد من الإساءة أو التحرش، وبيّنت دراسة للمركز الوطني للاضطرابات النفسية في بريطانيا أن نحو 25 في المئة من الرجال الذين تعرضوا للتحرش يعانون انعزالاً اجتماعياً مزمناً.
وقد يعاني الرجال مشاعر الغضب والإحباط بسبب التحرش، بخاصة إذا شعروا بأن المجتمع لا يصدقهم أو لا يأخذ شكواهم على محمل الجد، ومن الممكن أن يتحول الغضب إلى سلوك عدواني أو انعزال وفقدان للثقة بالنفس.
وتمتد التأثيرات النفسية إلى مكان العمل، بحيث قد يعاني الرجل انخفاض الإنتاجية أو تدهور الأداء الوظيفي، ومن المحتمل أن يتجنب الرجال العودة للعمل أو يطلبون تغيير مكان عملهم لتفادي الذكريات المرتبطة بالتحرش.
من يتحرش بالرجال؟
على رغم أن التحرش الجنسي غالباً ما يرتبط بالرجال كمتحرشين، فإن الرجال يتعرضون للتحرش من قبل النساء مثل اللمس غير المرغوب فيه والتعليقات الجنسية، أو الإلحاح في العلاقات الحميمية. وما يجعل بعض الرجال يترددون في الإبلاغ هو الوصمة الاجتماعية التي تفترض أن الرجال دائماً يرحبون بمثل هذا الاهتمام، وهذا أمر غير صحيح.
كما يتعرض الرجال للتحرش من قبل رجال آخرين، ويحدث هذا في أماكن العمل والسجون، أو حتى في البيئات الاجتماعية. ويتضمن الأمر سلوكيات مثل الضغط الجنسي واللمس غير المرغوب فيه، أو التعليقات الجنسية. ويعد الرجال المثليون أو المتحولون جنسياً أكثر عرضة لهذا النوع من التحرش، لكنه لا يقتصر فقط على تلك الفئات.
ومن تقارير مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) في أميركا، ظهر أن نحو 20 في المئة من الرجال الذين تعرضوا للتحرش كان المتحرش رجلاً.
ويكون التحرش في بيئات العمل عادة مدفوعاً بعلاقات القوة أو التهديدات المتعلقة بالمهنة، فيعجز الضحايا عن المواجهة خوفاً من فقدان الوظيفة أو التأثير في حياتهم المهنية. وأظهرت دراسة أجرتها منظمة Human Rights Campaign أن 15 في المئة من الرجال تعرضوا للتحرش في مكان العمل، وغالباً ما يكون المتحرش في موقع أعلى من الضحية. ويرتكب التحرش في المؤسسات التعليمية كالجامعات والمدارس سواء بين الزملاء أو بين الأساتذة والطلاب.
ويتعرض السجناء للتحرش الجنسي من قبل السجناء الآخرين أو حتى من قبل الحراس، إذ إن العلاقات غير المتكافئة في القوة تؤدي إلى استغلال جنسي للأضعف. وكذلك يتعرض بعض الجنود للتحرش من قبل زملائهم أو قادة أعلى منهم رتبة. وفي تقرير صادر عن الـ"بنتاغون" عام 2020 أشار إلى أن 16 في المئة من حالات التحرش الجنسي في القوات المسلحة الأميركية تشمل ضحايا ذكوراً.
في العالم العربي
لا يحظى التحرش بالرجال في العالم العربي بالاهتمام الكبير، مقارنة بالتركيز الأكبر على قضايا التحرش بالنساء، ولكن الدراسات تشير إلى أن التحرش بالرجال يتم التغاضي عنه بسبب التقاليد الثقافية والمجتمعية، إذ لا تتوافر بيانات وإحصاءات دقيقة ومنتشرة حول التحرش بالرجال في العالم العربي. ومع ذلك، تظهر بعض التقارير المحدودة مثل استطلاع أجرته "بي بي سي" و"البارومتر العربي" في أكثر من 10 دول عربية أن عدد الرجال الذين تعرضوا للتحرش الجنسي في الأماكن العامة في العراق يفوق عدد النساء، فبلغت النسبة 20 في المئة لدى الرجال و17 في المئة لدى النساء. وتساوت تقريباً نسبة التحرش في تونس بفارق واحد في المئة لمصلحة الرجال، بينما شهدت بقية الدول فارقاً كبيراً لمصلحة النساء اللواتي تعرضن للتحرش.
وتحتاج قضية التحرش الجنسي بالرجال إلى أخذها أكثر على محمل الجد، ولمزيد من الاهتمام والوعي المجتمعي لتوفير الدعم المناسب للضحايا ومساعدتهم في تجاوز آثار هذا الانتهاك المؤلم.