أحد المراكز الانتخابية في أربيل (إعلام الحزب الديمقراطي)
أدلى الناخبون في إقليم كردستان العراق اليوم الأحد بأصواتهم في أول انتخابات برلمانية تجري تحت إشراف مفوضية اتحادية، وسط تنافس محتدم بين الحزبين التقليديين الحاكمين وظهور قوى معارضة جديدة على إثر أزمات سياسية واقتصادية، فيما ينتظر أن تنهي حال الفراغ القانوني السائد منذ نحو عامين على وقع صدور سلسلة قرارات قضائية اتحادية، وتفتح الباب لصوغ مسار جديد لإدارة الملفات الخلافية داخلياً وتلك العالقة مع بغداد، فضلاً عن إعادة رسم الاستراتيجية الكردية في التعامل مع المحيطين الإقليمي والدولي.
وكانت عملية التصويت انطلقت في السابعة صباحاً بتوقيت بغداد واستمرت لغاية الساعة السادسة مساء، من دون إعلان مفوضية الانتخابات عن تسجيل أية خروقات "حمراء". وكانت نسبة الإقبال على التصويت خلال فترة الصباح لغاية منتصف النهار ضعيفة ولم تتجاوز الـ30 في المئة وفق المفوضية، قبل أن يشهد الإقبال ارتفاعاً في الساعات الثلاث الأخيرة، وبحسب البيانات الصادرة عن وكلاء الكيانات والقوى السياسية فإن النسبة قد تتجاوز 50 في المئة، بخلاف التوقعات التي كانت ترجح تسجيل نسب مشاركة متدنية بسبب مقاطعة الناخبين.
هيمنة متجذرة
منذ الانتفاضة الكردية ضد النظام العراقي السابق برئاسة صدام حسين عام 1991، يحتكر الحزبان التقليديان "الديمقراطي" ويتزعمه مسعود بارزاني و"الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني النفوذ في الإقليم، لكنهما يعانيان آثار حكم الإدارتين اللتين نشأتا على إثر اقتتال داخلي خاضاه في منتصف تسعينيات القرن الماضي، إحداهما في أربيل تحت سلطة حزب بارزاني، والثانية في السليمانية حيث نفوذ حزب طالباني. وعلى رغم ظهور قوى وتكتلات معارضة منذ عام 2009، إلا أن تشتت مواقفها حال دون إحداث تغيير مؤثر في ميزان القوى.
زعيم "الحزب الديمقراطي" مسعود بارزاني يدلي بصوته (وسائل إعلام الحزب)
نظام انتخابي جديد
يميز هذه الانتخابات عن سابقاتها أنها تجري للمرة الأولى تحت إشراف المفوضية العليا للانتخابات الاتحادية، بعد أن تأجل موعدها لأربع مرات متتالية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2022 على وقع خلافات بين القوى الكردية حول قانون الانتخابات عقب أعوام من الخلافات السياسية وأزمة اقتصادية مزمنة، كما يتم للمرة الأولى اعتماد نظام الدوائر المتعددة بدلاً من الدائرة الواحدة، مع خفض عدد مقاعد البرلمان من 111 إلى 100 مقعد، وكذلك مقاعد "كوتا" الأقليات من 10 إلى خمسة مقاعد، في وقت تراجعت سلطة الإقليم التي تمتعت بصلاحيات شبه مستقلة عن بغداد منذ عام 1991، عندما حرمتها قرارات قضائية اتحادية من تصدير النفط الكردي وألزمتها تسليم إيراداتها النفطية وغير النفطية، كما أفضت إلى حل برلمان الإقليم ومفوضية الانتخابات فيه مع فرض نظام انتخابي جديد، إلى جانب سلسلة من أحكام كانت اعتبرتها حكومة أربيل قرارات "سياسية غاياتها تقويض الإقليم".
تعثر تقني
وكشفت المفوضية المشرفة على الانتخابات عن أنها ستعلن النتائج خلال 24 ساعة، بعد إجراء عملية العد والفرز يدوياً وإلكترونياً، في حين تم اتخاذ تدابير للحد من المخالفات من بينها منع حمل الناخبين الهواتف النقالة أثناء الإدلاء بأصواتهم وحظر أي مظاهر عسكرية قرب مراكز ومحطات الاقتراع. وفي الأثناء، أفادت منظمات في الرصد والمراقبة بأن عملية التصويت "شابتها إشكالات وبعض التعثر بسبب عدم قراءة الأجهزة الإلكترونية بصمة الناخبين بخاصة لدى كبار السن، كما سجلت حالات عطل في بعض الأجهزة قبل أن يتم إصلاحها او استبدالها".
رئيس حكومة الإقليم نائب رئيس "الحزب الديمقراطي" مسرور بارزاني يدلي بصوته (موقع حكومة الإقليم)
دوافع للمشاركة
وساد القلق من تدني نسبة مشاركة المصوتين على غرار الانتخابات الاتحادية التي شارك فيها الإقليم ولم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 36 في المئة، وقال الناخب ريبوار صديق وهو طالب جامعي لـ"اندبندنت عربية" بعد الإدلاء بصوته إن "هذه الانتخابات تحمل أهمية بالغة لاستعادة شرعية المؤسسات وضخ دماء جديدة في العملية السياسية، والدفع إلى وضع حد لمعاناة المواطنين وتعزيز الثقل الكردي في مجابهة التحديات، ومن بينها عقدة الخلافات مع بغداد بما يتوافق مع المصالح العليا للإقليم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح محمد سيروان وهو موظف حكومي من جانبه أنه قرر أن يدلي بصوته هذه المرة بخلاف الانتخابات السابقة "فهذه تُعدّ فرصتنا الوحيدة لإحداث تغيير وإنهاء حال الإحباط واليأس عبر إزاحة كل من تسبب في الأزمات"، وأردف "أنا كغيري من موظفي القطاع العام أواجه منذ عقد معاناة للحصول على مرتبي بسبب الخلاف بين الإقليم وبغداد، ويجب اليوم أن نتخذ موقفاً لمحاسبة المقصرين".
نظام الدوائر المتعددة
يبلغ عدد الذين يحق لهم التصويت نحو مليونين و900 ألف شخص، من مجموع سكان الإقليم الذي يفوق ستة ملايين نسمة، بينهم 215 ألف ناخب ضمن الاقتراع الخاص، من المسجلة أسماؤهم في النظام البيومتري. فيما يبلغ عدد المرشحين 1191 بينهم 368 امرأة، ضمن 136 قائمة تضم مختلف المتنافسين من القوى والتحالفات بمن فيهم المستقلون، إلى جانب 38 مرشحاً من الأقليات التي لها مقعدان في أربيل ومثلهما في السليمانية ومقعد في دهوك.
وفُتح 1431 مركزاً انتخابياً وأكثر من 6300 محطة اقتراع في محافظات الإقليم الثلاث، وبحسب مفوضية الانتخابات فإن 100 ناخب لم يتسلم بطاقته الانتخابية، أي إنهم سيحرمون من الإدلاء بأصواتهم. أما على صعيد عملية المراقبة، فإن عدد المراقبين بلغ 1800 فرد بينهم ممثلون عن دول ومنظمات أجنبية ومحلية وأكثر من 50 حزباً، وأكثر من 43 ألفاً من وكلاء ومراقبي الأحزاب السياسية.
زعيم "حزب الاتحاد الوطني" بافل طالباني يدلي بصوته في السليمانية (الإعلام المركزي للحزب)
مفاوضات شاقة
ووفقاً للنظام الانتخابي الجديد، فإن الإقليم مقسم على أربع دوائر، اثنتان منها في محافظتي أربيل 38 مقعداً ودهوك 25 مقعداً، الواقعتين في نطاق نفوذ الحزب "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني الذي يقود الحكومة، ودائرتان في نطاق نفوذ شريكه الرئيس "الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني في محافظة السليمانية 38 مقعداً ومنطقة حلبجة ثلاثة مقاعد.
ومن المرجح أن يحافظ الحزبان الرئيسان على صدارة النتائج وفق المحلل في الشأن الكردي جمال عبدالعزيز ذلك أن "المنافسة على حصد غالبية المقاعد تنحصر بين الحزبين، وإن كانت التوقعات ترجح تصدر "الديمقراطي" للنتائج، لكنه هذه المرة لن يتمكن من بلوغ عتبة 50+1، بل إن فارق المقاعد بين الطرفين سيتراجع، وحتى لو تمكن أي منهما تخطي هذه العتبة فإن مفاوضات تشكيل أية حكومة لن يكتب لها النجاح من دون أحدهما، نظراً إلى القاعدة السائدة المحكومة بعوامل انقسام النفوذ الإداري والعسكري، وما يربطهما بعلاقات ومصالح مع أطراف إقليمية ودولية"، لافتاً إلى أن "الديمقراطي وفق هذه المعطيات، قد لا يتمكن من الاحتفاظ بمنصبي رئاستي الحكومة والإقليم معاً، مع إصرار الاتحاد على الحصول على أحد المنصبين".
وفي شأن حظوظ قوى المعارضة، قال عبدالعزيز "بعد تشكل قوى معارضة جديدة، من المتوقع أن تحقق نتائج مقبولة على حساب الحزبين، لكن قد لا يكون لها ذلك التأثير في قاعدة المعادلة، نظراً لافتقارها إلى تكتل موسع، وقد لا يكون مستبعداً دخول بعضهم في مساومات مع أحد الحزبين للانضمام إلى التشكيلة الحكومية المقبلة"، متوقعاً أن "تكون مفاوضات تشكيل الحكومة الكردية طويلة وشاقة وقد تستمر بين خمسة وستة أشهر".
مركز انتخابي في أربيل (إعلام الحزب الديمقراطي)
استفزاز وتخوين
وفي الاقتراع الخاص الذي أجري أول من أمس الجمعة، زعم كل من الحزبين تحقيق تقدم أحدهما على الآخر في النتائج غير الرسمية، كما صدرت شكاوى من تعرض العسكريين لضغوط لتصوير ورقة الاقتراع بواسطة الهاتف المحمول قبل وضعها في الصندوق لإثبات انتخابهم للمرشح الموصى به من قبل الحزب الذي ينتمي إليه. وأجمعت النتائج الصادرة عن وكلاء القوى السياسية أن أكثر من 26 ألف صوت أبطلت، إما لخطأ غير مقصود ارتكبه الناخب، أو بقصد الاحتجاج على القوى السياسية.
وطغى الطابع "الاستفزازي" وتبادل الاتهامات والتخوين، بخاصة بين الحزبين على الخطاب السياسي في الحملة الدعائية. فـ"الاتحاد" على رغم أنه كان الشريك الرئيس في جميع حكومات الإقليم المتعاقبة منذ عام 1992، ارتكز على توجيه اللوم إلى "الديمقراطي" واتهامه باحتكار سلطة القرار وتحميله تداعيات سلسلة الإخفاقات التي مني بها الإقليم، بخاصة في الملف الخلافي مع بغداد، وممارسة سياسة "التمييز المناطقي"، رافعاً شعار "تصحيح مسار الحكم وإنهاء التسلط". وغلب على حملته الدعائية إطلاق الوعود بإزاحة رئيس الحكومة مسرور بارزاني عن منصبه واسترجاع محافظة أربيل، في تذكير لطرده قواته من المدينة عام 1996 من قبل حزب بارزاني بالتعاون مع النظام العراقي السابق برئاسة صدام حسين، كما لجأ إلى تطبيق قرار توطين مرتبات موظفي الإقليم لدى مصارف الحكومة الاتحادية في خطوة مضادة لـ"الديمقراطي" المتمسك بإبقائها ضمن مصارف الإقليم.
أما الحزب "الديمقراطي"، فرفع شعار "لا تستطيعون" في تحدٍ لشعار نظيره "الاتحاد"، متهماً إياه بالتسبب في تقويض حقوق الإقليم الدستورية لمصلحة بغداد من خلال الاستقواء بالقوى الحاكمة في بغداد، وكذلك بقوى أجنبية في إشارة إلى إيران، والاستحواذ على الإيرادات المالية في نطاق نفوذه. وحمله مسؤولية "ارتكاب خيانة الانسحاب" من كركوك عقب إجراء استفتاء للانفصال عام 2017، كما تعهد بإنهاء ما وصفها بسلطة "المافيا والمخدرات" في محافظة السليمانية وتوابعها، وكذلك "المشاركة في التآمر" لتقويض سلطات الإقليم عبر السلطة الاتحادية.
ناخب بعد الإدلاء بصوته في أحد مراكز أربيل (إعلام الحزب الديمقراطي)
تشتت المعارضة يخدم الحزبين
وفي ساحة المعارضة، فإن سمة التباين والإخفاقات لازمت مسيرتها على رغم تحقيقها أحياناً نتائج غير متوقعة، بدءاً من حركة "التغيير" التي أعلنت قبل أيام انسحابها من الحكومة الائتلافية وعودتها لساحة المعارضة، بعد أن هوت شعبيتها منذ خروجها خالية الوفاض في الانتخابات الاتحادية عام 2021، وما أصابها لاحقاً من موجات انشقاقات متتالية على مستوى القيادات والأعضاء، انضم بعضهم إلى الحزبين الحاكمين، فيما التحق آخرون بقوى في المعارضة.
ويرجح مراقبون أن تتصدر حركة "الجيل الجديد" بزعامة شاسوار عبدالواحد نتائج المعارضة لتحتل المرتبة الثالثة بعد الحزبين، بناء على ما حققته من مكاسب لافتة في الانتخابات الكردية والاتحادية عامي 2018 و2021 على التوالي"، إلا أن قوى معارضة تشكلت أخيراً على يد سياسيين ونواب سابقين منشقين يمكن أن تحقق بعض المكاسب على حساب الحزبين، في مقدمتها حركة "الموقف الوطني" تحت قيادة النائب السابق علي حمه صالح والمنشق عن حركة "التغيير"، وكذلك حزب "جبهة الشعب" بقيادة المنشق عن "الاتحاد" لاهور شيخ جنكي، بينما تطمح القوى الإسلامية إلى تعزيز ثقلها النيابي السابق، مثل "جماعة العدل" بزعامة علي بابير و"الاتحاد الإسلامي" بزعامة صلاح الدين بهاء الدين.
بُعد إقليمي ودولي
وتحمل هذه الانتخابات أهمية على الصعيدين الإقليمي والدولي اللذين لهما حضور مؤثر في الساحة الكردية والعراقية بصورة عامة، ذلك أن عامل المحاور في المنطقة له الأثر المباشر على مسار العلاقة بين الحزبين وكذلك على تفاهماتهما في اتباع صيغة شبه متوازنة لإدارة الحكومات الكردية. فـ"الديمقراطي" واقع بحكم الحدود الجغرافية والمصالح الاقتصادية مع أنقرة، في حين يرتبط نظيره "الاتحاد" بعلاقة وثيقة الصلة بطهران، وكانت لتنافس الدولتين الجارتين على النفوذ في الساحة العراقية تبعات واضحة على شكل الصراع السياسي في داخل "البيت الكردي"، بينما راوح الدور الأميركي في إطار رأب الصدع بين الحزبين من خلال تقديم دعم مالي ولوجستي لإعادة توحيد قواتهما "لتعزيز استقرار الإقليم في إطار الدولة العراقية الفيدرالية". ومارست الإدارة الأميركية ضغوطاً متواصلة على القيادات الكردية لإجراء هذه الانتخابات من دون تأجيل كشرط لاستمرار دعمها السياسي والمالي للإقليم الكردي.