سيناريوهات الصراع بين إيران وإسرائيل مفتوحة على العديد من الخيارات (رويترز)
فتحت الضربة الجوية الإسرائيلية ضد إيران الباب على مصراعيه في الولايات المتحدة لاستقراء نتائجها وتداعياتها على منطقة الشرق الأوسط والمصالح الأميركية فيها وما إذا كانت إيران سترد الضربة أم أن الطرفين استعادا الردع المتبادل؟
كما أثيرت أسئلة حول إمكانية أن يمهد ضبط النفس بينهما إلى محادثات بناءة مع "حماس" و"حزب الله" بعدما وضعت الضربة طهران في مأزق ربما يدفعها للبحث عن مخرج، أم أن الضربة ستعيد إيران وإسرائيل إلى حروب الظل مرة أخرى، فما السيناريوهات المتوقعة لما بعد الرد الإسرائيلي على هجوم إيران في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري؟
حقبة جديدة
كان الهجوم الإسرائيلي على إيران في وقت مبكر من أمس السبت الذي يعد أخطر ضربة عسكرية على الأراضي الإيرانية منذ عقود، محسوباً لتجنب إثارة رد فعل تصعيدي، لكنه دفع أيضاً العدوين إلى عمق صراع مباشر يخلق حقبة جديدة وخطرة للشرق الأوسط.
وعلى رغم أن إسرائيل استجابت إلى الضغوط الأميركية وتجنبت ضرب المنشآت النووية والنفطية التي حذرت إيران على مدى أسابيع من أنها ستجلب رداً صعباً، فإن توجيه إسرائيل الضربات إلى 20 هدفاً، بينها أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، وبخاصة البطاريات الروسية الصنع "إس 300" الموجودة حول طهران والمنشآت النووية والنفطية، فضلاً عن استهداف منشآت أخرى مخصصة للوقود الصلب الذي يستخدم للصواريخ الباليستية البعيدة المدى، أحدث نوعاً من المفاجأة للإيرانيين الذين ربما توقعوا هجوماً أقل قوة.
وفي حين أن إيران أبلغت دولاً أخرى في المنطقة أنها لا تنوي الرد، فإن هناك خشية أن تكون الضربة قد زادت من خطر سوء التقدير الذي قد يؤدي إلى حرب أوسع نطاقاً، كما أن وجود متشددين في المؤسسات السياسية في كل من إسرائيل وإيران يريدون رؤية مواجهة عسكرية بين الطرفين، يزيد من الأخطار المتوقعة على رغم الارتياح الأميركي بأن طبيعة أهداف الهجوم كان علامة على أن الضغوط من إدارة بايدن والدبلوماسية الأميركية حققتا الانتصار.
خيارات الرد الإيراني
لكن مع إظهار إسرائيل أنها قادرة على اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية، واستهداف عدد من المواقع الرئيسة في وقت واحد، تكشفت نقاط ضعف طهران، وربما تشعر بأنها مضطرة إلى الرد عسكرياً على الهجوم الإسرائيلي، لتستمر الدورة التصعيدية الانتقامية التي يحذر الأميركيون والإسرائيليون من تداعياتها في ظل الرسالة الي أرادت تل أبيب إظهارها للإيرانيين بأنها لا تزال تحتفظ بقدرة واسعة على التصعيد بصورة أكبر إذا قررت إيران الرد.
وربما تلجأ إيران إلى تقليص الصراع من خلال مهاجمة إسرائيل عبر ميليشياتها، من طريق تصعيد عمليات "حزب الله" باستخدام صواريخ أكثر قدرة ودقة في الاستهداف، وعبر تكثيف هجمات الحوثيين في اليمن، أو أن تواصل إيران دائرة الانتقام بصورة مباشرة كما فعلت في أبريل (نيسان) الماضي وأكتوبر الجاري، وهو ما يرى المراقبون في واشنطن أنه الخيار الأكثر ترجيحاً.
ماذا ستفعل طهران؟
ربما تبدو طهران في مأزق خاسر مرة أخرى، فقد وعدت بالفعل برد قاس إذا ضربت إسرائيل، وعززت بعد الضربة حقها في الدفاع عن نفسها، ولكن لديها محفزات كبيرة لعدم مضاهاة تهديداتها بأفعال مماثلة.
وبحسب مدير مبادرة سكوكروفت للأمن في الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي جوناثان بانيكوف، فإن الضربة التي وجهتها إسرائيل لإيران في أبريل الماضي، وقتل زعيم "حماس" إسماعيل هنية في طهران نهاية يوليو (تموز) الماضي، وضرباتها ضد "حزب الله" على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، وهجومها الأخير أمس، من شأنه أن يعزز لدى إيران فكرة أنها أقل قوة عسكرياً، وهو ما يجعل الدخول في حرب شاملة خياراً غير منطقي بالنسبة إلى نظام يعطي الأولوية للاستقرار فوق كل شيء آخر.
كما أن الميليشيات التابعة لإيران التي تعمل بالوكالة من "حزب الله" إلى "حماس" والفصائل الشيعية في سوريا والعراق، ضعفت خلال الأشهر القليلة الماضية، ومن غير المرجح أن ترغب إيران في تسريع إضعاف خطوط دفاعها الأمامية.
وبينما لا تزال هناك إمكانية كبيرة لارتكاب أخطاء أو سوء تقدير قد يؤدي إلى حرب أوسع نطاقاً، فإن هجمات إسرائيل، التي قد تستمر في أشكال مختلفة، ربما يكون تأثيرها كبيراً، لكن إذا واصل المسؤولون الإيرانيون الاستخفاف من هذه الهجمات، وتأكيدهم النجاح في التصدي للهجوم، يمكن أن يكون بداية طيبة وإشارة إلى أن طهران تبحث عن مخرج، حتى لو ادعت خلاف ذلك.
حرب شاملة
غير أن باحثين آخرين في واشنطن يرون أن الهجوم الإسرائيلي على إيران يعني أن الحرب الشاملة أصبحت أقرب من أي وقت مضى، ويعود ذلك بحسب كبير الباحثين في برامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلس، داني سيترينوفيتش، فإن الهجوم الإسرائيلي جاء على النقيض التام من رد إسرائيل السابق في أعقاب الهجوم الإيراني في أبريل، إذ كان الهجوم هذه المرة واسع النطاق وصاخباً وكبيراً في جميع أنحاء إيران، شنته مئات الطائرات وجاء في موجات عدة، واستهدف بطاريات الدفاع الجوي أس 300 الروسية ومواقع لتخزين وإنتاج الصواريخ الباليستية.
لكن الكرة الآن في أيدي القيادة الإيرانية، التي التزمت في الماضي بالرد الفوري على أي هجوم إسرائيلي كبير، وليس من المستغرب أن تحاول وسائل الإعلام الإيرانية في تصريحاتها الأولية التقليل من حجم هذا الهجوم ونتائجه لحماية صورة النظام، غير أن حقيقة أن القيادة الإيرانية التزمت بالرد الفوري لا تزال تزيد من احتمالية أننا لا نزال في بداية جولة أخرى من الاشتباكات بين الدولتين.
والواقع أن القيادة الإيرانية في مأزق حقيقي، إذ من الواضح أن قادة إيران غير مهتمين بحرب إقليمية، ومن الواضح لهم أيضاً أن أي رد يجعلهم أقرب إلى حرب إقليمية، فهم يخشون مثل هذا الصراع، وبخاصة في ظل الوجود العسكري الأميركي الواسع في الشرق الأوسط، ويظل السؤال هو هل يمكنهم استيعاب هذا الهجوم دون رد ومن ثم التعرض لهجمات مستقبلية؟
استعادة الردع
تشير مقاطع الفيديو التي انتشرت عبر حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المؤيدة للنظام الإيراني إلى كيفية تفسير الجمهورية الإسلامية في إيران للهجوم، في الأقل على المستوى السطحي، فقد كان الإيرانيون يصورون الرد الإسرائيلي على أنه لا يستحق رد طهران على رغم إعلان تل أبيب استخدامها لأكثر من 100 طائرة مقاتلة في هجوم على ثلاث موجات، وهذا يعني في جوهره، أن الردع استُعيد مرة أخرى.
وفي حين أن رد إسرائيل يمثل أول هجوم جوي من دولة أجنبية على إيران منذ الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات، وصفت وكالة أنباء "تسنيم" (وهي شبكة تابعة للحرس الثوري الإيراني) التقرير الذي يفيد بأن إسرائيل استخدمت أكثر من 100 طائرة بأنه اختلاق مطلق، كما أفادت وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية أن الهجوم الإسرائيلي تم اعتراضه والتصدي له بنجاح وأن أضراراً محدودة ألحقت بمناطق معينة، كما قللت وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية من أهمية الهجوم.
في الوقت نفسه بدا أن الإيرانيين المناهضين للنظام شعروا بخيبة أمل إزاء الهجوم الإسرائيلي، وبخاصة أن المسؤولين الإسرائيليين بينهم نتنياهو وغالانت بالغوا في تضخيم رد إسرائيل في الفترة التي سبقت الضربات، ومن غير الواضح ما إذا كانت الرواية الإسرائيلية جزءاً من عملية نفسية أو ما إذا كانت الدبلوماسية الأميركية خلال الأسابيع الأخيرة خفضت من مستوى الرد الإسرائيلي عدة درجات.
غير أن المدى الكامل للأضرار في إيران قد يستغرق أياماً، إن لم يكن لأسابيع، وإذا اتضح حينها أن الهجمات كانت مقدمة لشيء أكبر في المستقبل، فإن هذا من شأنه أن يغير حسابات الردع مرة أخرى، وفقاً للباحثة المتخصصة في الشؤون الإيرانية، ورئيسة تحرير مطبوعة "إيران سورس"، هولي داغريس.
فرصة سانحة
كانت التقلبات الدبلوماسية الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مفيدة في الحفاظ على الوضع الحالي بعد العملية الإسرائيلية، كما كانت الضربات بمثابة النداء الأخير لإسرائيل قبل عودة حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى طاولة المفاوضات بهدف التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإعادة الرهائن الإسرائيليين إلى ديارهم، لكن مع استعداد إسرائيل لقتل قادة "حماس" ومفاوضيها، يظل هناك سؤال حول من يتقدم علناً للتفاوض نيابة عن "حماس" و"حزب الله"؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإضافة إلى اشتباكاتها القاتلة مع "حماس" و"حزب الله"، فإن ضبط النفس الإسرائيلي وربما الإيراني يبدو أنه يمكن أن يفتح الفرصة للتفاوض بنجاح على وقف إطلاق النار في غزة وإبرام صفقة الرهائن ووقف الأعمال القتالية في لبنان، وبخاصة أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في لبنان لا تسير بالسرعة المتوقعة، ومع تزايد الخسائر بين القوات الإسرائيلية واستمرار صواريخ "حزب الله" في التحليق باتجاه أهداف إسرائيلية، ربما يشعر الإسرائيليون بأن العملية لا تسير على النحو المتوقع، وكما وجدت إسرائيل باستمرار في الماضي، فإن قمع "حزب الله" يبدو دائماً أسهل على الورق مما يثبت في الواقع.
ووفقاً للمساعدة الخاصة السابقة لوزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، جينا أبركرومبي وينستانلي، إذا كان هناك ممثلون مفوضون لـ"حماس" و"حزب الله"، فقد تتاح للمفاوضين مرة أخرى فرصة خلال الأيام والأسابيع المقبلة لإنقاذ الأبرياء في جميع أنحاء المنطقة بعد جولات تنتهي بالفشل تلو الآخر.
عودة حروب الظل
ويبدو أن الخيار الأخير أمام إيران هو العودة إلى حروب الظل مع إسرائيل التي استمرت لأعوام قبل السابع من أكتوبر 2023، فقد توسعت قدرة كل من إسرائيل وإيران على تحمل الأخطار، ويرى كل منهما الآن أنه من الممكن تجنب الحرب الشاملة حتى بعد الضربات المباشرة على أراضي كل منهما.
ومع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية، فإن بايدن سيكون بطة عرجاء، وسوف تتضاءل قدرته على ممارسة الضغط على إسرائيل، وإذا فازت نائبة الرئيس كامالا هاريس في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فمن المتوقع أن تستمر في الضغط من أجل الحد من التوترات، ولكن إذا كان المنتصر هو الرئيس السابق دونالد ترمب، فمن المرجح بقوة أن يترك نتنياهو يفعل ما يشاء.
لكن ترمب قد يشعر بصورة مختلفة الآن وسط تقارير عن تهديدات إيرانية محتملة باغتياله، وإذا عاد إلى منصبه مرة أخرى في البيت الأبيض، فقد يعطي ترمب بسهولة نتنياهو الضوء الأخضر لتوسيع الحرب مع إيران ومن ثم جر الولايات المتحدة إلى الصراع.
وفي ظل هذه الأجواء ربما تجد إيران وإسرائيل أن العودة إلى حروب الظل أخف وطأة من الصراع المباشر.